المجتمعات الخليجية.. ومفترقات الطرق الجديدة

د.عبدالله باحجاج

قررت الدول الخليجية الست تطبيق ضريبة القيمة المضافة بالتزامن مع بعضها البعض دون الاستفراد به من قبل أية دولة منها، لدواع كثيرة، منها امتصاص حالة الغضب المجتمعي في إطار الدائرة الأوسع، ومنها تداخل مجتمعاتها وترابطها داخل امتداد جغرافي واحد رغم انقسامها على ست دول، ومنها أن هذه الضريبة تحتم التنسيق فيما بينها، وقد حاولت إحداها الاستفراد بالتطبيق إلا أنها عدلت عن ذلك رغم قدرة مواطنيها على تحمل الأعباء المالية الإضافية للضريبة الجديدة، لكن هل تعلم هذه الدول أنها تؤسس لمرحلة مصيرية جديدة في تاريخ مجتمعاتها غير مسبوقة تماما؟

وهناك مجموعة تساؤلات نوجهها لتحريك الفكر السياسي الخليجي، لعلنا نساهم في تقديم رؤية من رحم الوضعية الاجتماعية - المتضررة لاحقا - لكي تقف على قدم المساواة مع الرؤية الاقتصادية الجامحة والجانحة التي تغلب التحول الاقتصادي الجديد دون الاعتداد السياسي بالأوضاع الاجتماعية، أبرزها:

س: هل هناك دراسة علمية بالتأثيرات الاجتماعية الناجمة عن تطبيق هذه الضريبة؟ دون شك هناك مثل هذه الدراسة، لكنها عن التأثيرات الاقتصادية دون الاجتماعية فهذه الاخيرة قضية منسية تماما، وذلك لجنوح رجال الاقتصاد المؤثرين على صناعة القرار نحو المحافظة على مصالحهم الاقتصادية، وكل ما يقومون في المجال الاجتماعي هو من قبيل الاجتهاد، وهذا ما سوف نلمسه في قائمة استثناءات الضريبة الجديدة.

س: هل يعتقد صناع القرار في الخليج أنّ القدرة المجتمعية تستوعب ضريبة القيمة المضاعفة رغم قائمة استثناءاتها؟ وبالتالي، علينا أن نتساءل عن التوقيت، هل هو مناسب للظروف الاجتماعية وحتى الاقتصادية بصرف عن النظر عن إيجابياتها وسلبياتها؟ فكيف اعتدينا بها؟ وهنا علينا التذكير أن تطبيق هذه الضريبة قد يتم بداية العام 2017، والتذكير كذلك، بأنها تفرض بعد فرض عمليات مماثلة لها تبعات مالية ملموسة على المواطنين مثل رفع الدعم عن الوقود وتحرير أسعاره، فكلما ارتفعت أسعار النفط في الأسواق العالمية ترتفع في المقابل أسعار الوقود الداخلية، وتفرض كذلك بعد رفع الرسوم والضرائب على المواطنين، وكذلك بعد وقف الترقيات والتوظيف والإحلال والتعمين، والآن يسعون إلى فرض الضريبة على القيمة المضافة على السلع والخدمات، هل لنا أن نستشرف التأثيرات الاجتماعية لتلك السياسات والإجراءات بعد أن تتقاطع معها ضريبة القيمة المضافة؟ هنا القضية الكبرى، وهى أننا لا ينبغي أن ننظر للضريبة في حجم استثناءاتها بمعزل عن سياسة رفع الدعم الحكومي عن الضرائب والرسوم التي كان يدفعها المواطن، وجعل المواطن يتحملها بمفرده، هنا يظهر لنا تراكم وتمركز مجموعة أعباء مالية كبيرة قديمة وجديدة فوق كاهل المواطن الذي توقفت ترقياته منذ ثماني سنوات، وأصبح ثقل أبنائه الباحثين عن عمل تغرق راتبه في مستنقع العجز، وتزلزل نفسيته خشية أن تغرر بهم القوى الظلامية، والتأثيرات الاجتماعية المتوقعة لن تكون آنية، وإنما على مدى زمني قصير، وكل ما تحدثه الآن، التهيئة النفسية السلبية للمجتمع لعصر الضرائب في ظل جمود المرتبات وارتفاع السلع والخدمات.. إلخ وهذا الشعور سيتعاظم نفسيا إذا ما استمرت الارتفاعات تحاصر قدرة المواطن الخليجي خاصة في ثلاث مجتمعات خليجية التي مرتبات أفرادها ضعيفة، والمثير في تطبيقات هذه الضريبة، أنها تحمل مجموعة استثناءات بسيطة، وقد تحددت في الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الاجتماعية و(94) سلعة غذائية ذات الاستهلاك الواسع، لكن إلى متى سيتم استثناؤها؟ تجارب الدول العربية وهى قليلة التي طبقت هذه الضريبة ومعظمها في دول المغرب العربي، قد تبنت النهج نفسه في الاستثناءات لكنّها وجدت نفسها في كل سنة تقلص من قائمة الاستثناءات كلما تزداد حاجتها للمال، وكذلك ترفع نسبة الضريبة إلى أكثر من (10%)، ومن خلال متابعتنا للخطابات الرسمية الخليجية - باستثناء السلطنة التي لا تزال تلزم الصمت - نلاحظ هناك تناقضا بل ارتباكا فيها، ففي الوقت الذي ترى في هذه الضريبة بأنها تهدف إلى الحد من الممارسات الاستهلاكية السلبية للمواطنين، كالتأثير على استهلاك التبغ ومنتجاته والمشروبات الغازية وبقية المواد المضرة بالصحة.. إلخ إلا أنها تقر في الوقت نفسه بحدوث تأثيرات اجتماعية واقتصادية كبيرة ستنتج عنها، مثلا ارتفاع التكاليف المعيشية للمواطنين وارتفاع أسعار العقارات والتكاليف السياحية وعزوف الأموال الأجنبية ونمو التضخم، إذن، أي خطاب حكومي أو مسيس، سيحصر تطبيق هذه الضريبة التي هى عبارة عن ضريبة المبيعات، على المنتجات غير الصحية مثلا بهدف التقليل من استهلالك هذه المواد، ولو كان ذلك هو الهدف المستهدف لسميت الضريبة بضريبة على المواد المضرة بالصحة، وهى كثيرة لا حصر لها.. ويمكن أن تدر لوحدها دخلا مهما لخزينة الدول، وهذه الأموال يمكن ضخها لبرامج علاج مرض السكري والسرطان.. مما نوفر لوزارة الصحة تمويلا مستداما لها وفي الوقت نفسه الحد من استهلاكها واستيرادها، عندئذ سنطمئن من عدم انتشارها لجيل الأطفال والشباب، وسوف تنعكس إيجابا على حوادث السير في بلادنا التي يكون وراءها حالات السكر، كلنا سنصفق لهذا التوجه الخليجي، وكلنا سنشد على عضدهم، لكن، ضريبة القيمة المضافة، هي أكبر محتوى وأعظم نطاقا من ذلك الحصر المحدود فقط، أنها تقدم من قبل الخبراء على أنها أحد أهم الإصلاحات الاقتصادية في الخليج، وأن أسباب اللجوء إليها، يرجع إلى انهيار أسعار النفط، ويرون كذلك، أنّ ضريبة القيمة المضافة تعتبر مصدرا من أهم مصادر الإيرادات لخزينة الدول، ومعها يتنبؤون بتحول الاقتصاديات الخليجية من الاعتماد على الإنفاق الحكومي إلى اقتصاديات تعتمد على بدائل مالية أخرى كالضرائب كما هو معمول به في الدول الأخرى، وماذا يمكننا أن نستشرف منه؟

النتيجة التي تتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى، تحييد العوائد النفطية عن موازنة الدولة السنوية رغم عودة ارتفاعها؟ وقد لا تكون كذلك، لكنها نتيجة تخرج بكل موضوعية من مسارات رفع الدعم الحكومي عن الرسوم والضرائب من جهة وعن تطبيق ضريبة القيمة المضافة من جهة وعن بقية السياسات والإجراءات المالية التي تتخذها الحكومة بصورة تصاعدية.. فهل ستشكل عوائدها المالية بديلا للعوائد النفطية؟ والتساؤل الأهم، هل تغيّرت الاتجاهات الحكومية لمواجهة تداعيات الأزمة النفطية؟ فقد كانت نحو تطوير خمسة قطاعات أساسية كمصادر للدخل مساعدة وبديلة للنفط، وهل البديل الضرائب وزيادة الرسوم في كل القطاعات؟ وكيف اخترنا أن تكون الضرائب من النوعية التي تمس المجتمع في مآكله ومشربه؟ ولماذا لا تفرض الضرائب على ثروات الاغنياء؟ ستظل تلكم تساؤلات محل نقاشات معمقة، لا يمكن لبلادنا أن تساير بقية دول المجلس التعاون في تطبيق ضريبة القيمة المضافة خاصة وبقية سياساتها المالية والاقتصادية عامة، فإذا ما وافقت بعض هذه الدول على ضريبة القيمة المضافة مثلا، فإنه سيكون وراءها قدرة مواطنيها على تحمل أعباء مالية إضافية، وبالتالي، لن تفقد مجتمعاتها إذا ما انصاعت لأجندة صندوق النقد، وهذا ليس تحاملا على هذه المؤسسة العالمية وإنما للزوم الاقناع السياسي، وكل من تابع أجندتها للدول الخليجية، سوف يندهش منها، ويكتشف غاياتها بسهولة، فمن بين نصائحها، تخفيض المرتبات، وفرض ضريبة القيمة المضافة، وتخفيض الإنفاق على الخدمات الاجتماعية الملقاة على عاتق الدول الخليجية الست، هل هذه الأجندة تحافظ على الاستقرار الاجتماعي لهذه الدول أم تقلب موازينها؟ فلو أخذنا تخفيض مرتبات المواطنين، يكفي لوحده فهم ما ورائه من أبعاد معلومة بالضرورة، لأنّ مرتبات بعض تلك الدول هي أصلا منخفضة، فكيف نُخفّض المنخفض ونحمله أعباء مالية مثقلة إذا لم يكن وراءه نيّة مستهدفة لدخول هذه الدول في متاهات الفوضى العامة.. القضية بحق أكبر، والدول الخليجية بحق في مفترق طريق خطرة.

وللموضوع تتمة.

تعليق عبر الفيس بوك