أفكار مهزوزة

عهود الأشخرية

لا تعلم كم من الوقت يجب أن تكون حقيقيًا في هذا العالم؛ الذي لا يمكن أن يكون حقيقيًا ولو لمرة واحدة كاملة، كل الكذبات التي كنا نُصدّقها منذ الصغر والتي كانت تُشكلنا لا يمكن أن تمرّ علينا هكذا الآن حين نراها تتكرر في آخرين، إخوتنا الصغار أو أطفالنا مثلا أو أطفال آخرين، وعبدالرحمن منيف يقول في ذلك: "من السذاجة إلى درجة البلاهة أن يعرّض الإنسان نفسه إلى تجربة فاشلة سبق أن عاشها ودفع ثمنا لها"، وأنا أرى ذلك صحيحًا إلى حد ما، لكن ليس فقط لأنفسنا لكن للآخر الذي يمثلنا بأي حال من الأحوال وينتمي إلينا، سنكون أقوياء حين نمنع من تكرار الخطأ مرتين.. أعتقد أنّه هُنا لا يجب أن ننادي بحق الآخرين في ذات التجربة التعيسة لأنّ مضارها ستكون أكثر من منافعها بالطبع.

لقد مضى أكثر مما نظن حتما، لكنه بقي أكثر مما نظن أيضًا فلذلك علينا أن نعمل لما تبقى في إنقاذ ما بقي منا ومن أرواحنا بدلا من إعادة الإصلاح، فحين كنا صغارا كم كانت الأشياء الجميلة بعيدة عنا ومغتربة في زاوية ما من زخم ما كان يوّجه لنا من أفكار غريبة عن (الله، الحب، الحياة، الرؤى الجديدة، التأملات الوجودية، الإحساس بالآخر بطريقتنا الخاصة، الأسئلة التي لا تنتهي، والأفكار الطفوليّة)، كان لكل شيء قوانين خاصة وحدود كثيرة لا يجب أن تُمس بأي طريقة.. (الله مثلا)؛ كانت هناك تعليمات كثيرة في طريقة العبادة وخطوات التعامل الحذرة مع الخالق خصوصا في أن يجب علينا أن نتفكر في الخلق لا في الخالق وإلى ما ذلك، وفي قوانين الثواب والعقاب، للدرجة التي كنا نشعر أن هذا العالم مجرد أوراق امتحان؛ ولا ينجح فيه إلا من يلتزم بكل كلمة في الكتب الدينية، هذا كله أوصلنا في النهاية إلى مرحلة خوف صار من الصعب علينا تجاوزها بسهولة.

وأيضا لو جئنا نتحدث عن الأسئلة الوجودية وطريقة تعاطي الكبار معها، لوجدنا أن كل ذلك يجعلهم حذرين كل الحذر من الفكرة التي يمكن أن تصل للطفل لذلك غالبا ما ينتهي السؤال بعدم الإجابة والتهرب وهذا بالطبع أكبر الأخطاء التي يمكن أن نقترفها في حق الطفل. ذلك من نفس النظرة التي يؤمن بها نزيه أبوعفش في فكرته التي تقول: "لم تزل خائفا، لم تزل غير ميت، غير الرصاص الذي قتل الآخرين كاد أن يقتلك".

ذات مرة قالت لي أمي: "حين كنتِ صغيرة، كل ليلة تشيرين إلى النجوم وتسألين: لمن تلك البيوت البعيدة ؟!" الآن وقد كبرت فهمت حاجة الطفل للتساؤل دائما حتى ولو كان السؤال ذاته لا يتغير. أمي لم تتعب من ذلك السؤال هذا ما فهمته منها لكنها لم تُخبرني بما كانت تُجيبني كل ليلة ولا أعلم إن كنت سأتعاطى مثلها في الموضوع ذاته؛ فالآن ألاحظ أختي الصغيرة تسأل أسئلة كثيرة وجودية ولا أحد يستطيع أن يجيب عليها إجابة كاملة لكنني أغبطها كثيرا لأنها يمكن أن تجد الإجابات من مصادر عدة (الكتب، الإنترنت، إلخ...) وهذا ما لم يكن متوفرًا بالنسبة لي فجعلني منزوية دائما في أفكاري الخاصة حين وصلت لمرحلة أن لا أسأل أحدًا عن الأشياء التي أفكّر بها ولم أكن أجد إجابة إلا نظرات من قبيل (توقفي عن التفكير بذلك)!

إنني هنا أتذكر فرجينيا وولف في مجموعتها القصصية "يوم الإثنين أو الثلاثاء وقصص أخرى"، ترجمة: ليلى محمد عثمان نجاتي.. بالتحديد في قصة (الحالة الغامضة للآنسة في) والتي تطرح الكثير من التساؤلات المهمة، تبدأ فيها بحديثها عن حالة الوحدة. تقول فيرجينيا: "لا شيء يماثل الوحدة التي يعانيها المرء وسط حشد من الناس، كثيرًا ما يكرر الروائيون ذلك؛ إنّه أمر يدعو للشفقة حقا، والآن أنا -على الأقل- بدأت أؤمن بذلك". فيرجينيا تبرر في قصتها تقلص آداب الحياة الإنسانية في دولة متحضرة فتقول أنّ مثل قصة (في) لا يمكن أن تحصل إلا في لندن، (الآنسة في) تتساءل دائما كيف يمكن للمرء أن يؤكد وجوده دائما ليحمي نفسه من أن يتم تخطيه.. "كيف يمكنك أن تحيا مرة أخرى إذا قرر الجزار، وساعي البريد ورجل الشرطة تجاهلك؟ إنه قدر فظيع!". كانت الآنسة (في) وأختها في تساؤلات مستمرة عن الحياة وعن ظلال الأشياء التي تلاحقهما وكيف يمكن للمرء أن ينظر بعيون الآخر في مناظر متشابهة. إذن قصة الآنسة في كانت بمثابة أسئلة ملاحقة دائما بإجابات غريبة، لكنها قناعات وُجدت من إيمان خالص غير متأثر بأفكار الآخر.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك