حاتم الطائي
جاءَ فوزُ صادق خان البريطاني المُتحدِّر من أصولٍ باكستانيةٍ مُسلمةٍ، برئاسةِ بلديةِ لَندن، ليُشكِّل سابقةً في تاريخ هذه المدينةِ المعروفةِ بتنوعها الإثني والثَّقافي، وليؤكد أنّ بريطانيا ليست أسيرة السياسة المبنية على أُحادية الهوية، كما هو الحال في الولايات المُتَّحدةِ.
إنّ الفوزَ الكاسحَ الذي حققه خان على منافسهِ مُرشَّح حزب المُحافظين زاك جولد سميث، وبفارق أصواتٍ قياسي ضمن له أكبر تفويضٍ فردي في تاريخ السِّياسة البريطانية، يُعدُّ انتصارًا لقيم الديمقراطية التي تُقدِّم الكَفاءةَ على اللون والدِّين والعِرق..
لقد انحاز اللندنيون للبرنامج الانتخابي، ولما فيه مصلحة مدينتهم، بعيدًا عن التقسيمات، ودون النظر إلى الخلفيات الاجتماعية، حيث لم يُضر صادق خان أنّه ابن مُهاجر باكستاني عمل سائق حافلة، وعملت أُمه في حياكة الملابس .. ولم يشَفع لمُرشح حزب المُحافظين زاك جولد سميث أنّه ابن ملياردير يعمل في مجال التمويل .. كما أنّه لم يُسعفه دعم اللوبي الصهيوني له بكل إمبراطورياته المالية والإعلامية..
وبِحُكم مسؤولياته كعُمدة لمدينة لندن، فإنّ صادق خان، هو أوَّل مُسلم يقود مدينة غربية كُبرى، ويُشرف على شؤون تشمل الأمن والنقل والإسكان وغيرها من الخدمات لنحو 8.6 مليون شخص هم تِعداد هذه المدينة المُكتظة والمُتسامحة، ويُدير موازنة تقدر بـ17مليار جنيه إسترليني!
تَغلَّبَ عُمدة لندن الجديد على منافسهِ اليهودي من حزب المُحافظين، بفارقٍ يَربُو على 30% من إجمالي الأصوات، رغم حملات التَّشويهِ التي تعرَّض لها خان، ورغم الأساليب التي عَمَد إليها مُنافسهُ زاك جولد سميث وحزب المُحافظين، ومن ذلك وصفه بالإرهاب، ومحاولة إثارة الـ "إسلاموفوبيا " في أذهان الناخبين، إلا أنّ الوعي الديمقراطي المُتجذِّر كان كفيلاً بدحض كل الافتراءات التي سَاقَها المحافظون بحق خان، فكان هذا الانحيازُ التَّاريخي لبرنامجه الانتخابي، ليوجه اللندنيون صفعة إلى غُلاة المُحافظين قد يحتاجون إلى وقتٍ طويلٍ للإفاقة من هول صدمتها!!
لم يخْذل نَاخِبو العَاصمةِ البريطانية خان وهو ليس طارئًا على الساحةِ السِّياسيةِ البريطانية، فقد عَرف العَملَ العَامَ وتولَّى في إطار انضوائه لحزب العُمَّال، عدداً من المناصب الحكومية الهامة ومنها وزير الدولة لشؤون النقل في يونيو 2009، وقد حقق نجاحاً كبيراً، الأمرُ الذي أكسبه الكثير من المصداقية في المُجتمع البريطاني، لدرجة أن وصفته جريدة "الإندبندنت" ذائعة الصيت، بأنّه الرجل الذي لا يخسر اعتماداً على رصيده من النجاح طوال فترة عمله بالسياسة .. وقبل ذلك كان محاميًا مدافعًا عن حقوق الإنسان..
رفع خان إبّان حملته الانتخابية شعار "لندن لكل اللندنيين"، واعدًا بأن تكون المدينةُ واحةً للمزيد من التَّناغم والتَّنوع والتَّعايُش. وأنه سَيعمل على توحيدها لتَسمُو فوق كل الخلافاتِ والعنصريةِ التي يروج لها المحافظون..
وقد أكسبه ذلك الكثير من التَّعاطف من مُختلف التَّيارات متجاوزاً منافسه الذي لِعبَ على ورقةِ العنصرية والإرهاب..
لقد أكَّد خان على مبادئ حَملتِه في كلماتٍ مُقتضبةٍ إثر فوزه بالانتخابات بالقول: "أنا فخور جدًا بأنّ لندن اختارت الأملَ دون الخوف والتوحد دون الانقسام" ..
إنّ فوز صادق خان بالسِّباق الانتخابي لعُمودية لندن، يزخر بالدروس والعِبر التي ينبغي الاستفادة منها وفي طليعتها أنّ الجهد الجاد والمُخلص هو السبيل إلى الترقي في مدارج العمل العَام، وأنّ النضج الديمقراطي في بعض المجتمعات الغربية وصل إلى حدٍ يصعُب التشويش عليه بادعاءات زائفة لربط الإسلام بالإرهاب، أو الحطِّ من قدرِ شَخصٍ بناءً على أُصولهِ العِرقيةِ أو خَلفيتهِ الدِّينيةِ أو الثَّقافية..
وفي سياق قراءتنا للمَشهد السياسي البريطاني الذي يضج حالياً بالكثير من المُتغيرات التي تجعل بريطانيا تقف على مُفترق طُرق، ومن ذلك استحقاق الاستفتاء الشَّعبي الذي يُجرى يونيو المُقبل ليُحدِّد مصيرها في الاتِّحاد الأوروبي، إما الخروج منه إلى غير رجعةٍ أو البقاء فيه .. وهو استفتاءٌ يَصعبُ التَّكهُن بنتيجته لتقارب الأصوات في كثيرٍ من الاستطلاعات والتحليلات السِّياسية..
ولقد نَجَم عن ذلك حالةً من اللا يقين تسود الاقتصادَ البريطاني في هذه المَرحلةِ المُضطربةِ المَشوبة بالانكماش..
وبينما يرى الكثير من البريطانيين أنّ خطوة الانسحاب في هذه الظرفية، تمثل على حدِ وصفِ الخبراءِ الاقتصاديين "قفزة في المجهول"، فإنّ العديد من البريطانيين يشعرون بأنّهم لا يحتاجون إلى أوروبا بقدرٍ حاجتها إليهم في مختلف المجالات، كما أنّ الولايات المُتَّحدة تُريد استمرار بقاءِ بريطانيا في الاتحاد الأوروبي لضمان التَّوازن مع قوة ألمانيا المُهيمنة اقتصاديًا.
وفي حال صوَّت البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي، ستفقد بريطانيا الكثير من المِيزات في التعامل مع السوق الأوروبي خاصة وأنّها تصدر 45% من إجمالي صادراتها إلى السوق الأوروبية، إضافة إلى خسارة وظائف، وفقدان المزايا التي تتمتع بها البنوك البريطانية كون بريطانيا تُعتبر المركز المالي لأوروبا وتُمارس مصارفها نشاطاً واسعاً في الأسواق الأوروبية.
والواقع أنّ خُروج بريطانيا من الاتِّحاد سيُعزِّز من موقف الأحزاب اليمينية والتي تدعو إلى تفكيك الاتِّحاد الأوروبي، وتُنادِي بتبني سياسات أكثر صَرامةً في التَّعامل مع المُهاجرين والأقليات وحُقوقهم داخل الاتِّحاد الأوروبي وخَاصةً مع تَفاقُم الأزمةِ الاقتصاديةِ التي تَعصِّف بالكثير من دول الاتحاد.
ويذهب الكثيرون إلى أنّ ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني، كان قد لوَّح بورقةِ الاستفتاءِ على بَقاءِ بِلادهِ في الاتِّحاد الأوروبي، كابتزازٍ سياسي حتى يَرضخَ الشُّركاءُ لشروطِ بريطانيا الداعيةِ إلى إيلائها المزيد من الخصوصية في إطار الاتِّحاد، ولم يكن يتوقَّع أن يصل الأمر إلى مرحلة الاستفتاء الفعلي الذي أصبح استحقاقاً لا مفرَّ منه..
ولا يقتصر الجدل المُثار حول عضوية بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، على دول الاتحاد بل تعداها وصولاً إلى الولايات المُتِّحدة الأمريكية، حيث تدور سجالات في الانتخابات الرئاسية الأمريكية تتمحور حول هذا الموضوع ففي الوقت الذي يُشجع فيه المُرشَّح الجمهوري دونالد ترامب على خروج بريطانيا من الاتحاد بحُجَّة أنّ بريطانيا ستكون في وضع أفضل لو تَخلَّت عن عضويتها في الاتحاد الأوروبي .. تدعو مُرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون إلى بقائها ضمن منظومة الاتِّحاد، باعتبارها بوابة أمريكا للاتِّحاد الأوروبي ..!
ورغم دَعوةِ ملكةِ بريطانيا إليزابيث الثانية إلى البقاء في إطار الاتِّحاد تفادياً للانقسام وحفاظاً على المَكاسب البريطانية، يظل الجدل قائمًا في انتظار الحسم عبر صناديق الاستفتاء .. ومن الآن وحتى الأسبوع الأخير من يُونيو المُقبل -موعد الاستفتاء-، فإنّ الاحتمالات جميعها مفتوحةٌ، وستشهدُ الأسابيع القادمة الكثير من الحراك للطرفين بُغية استمالة الرأي العام لوجهة نظر كل منهما ولكسب المزيد من الأصوات..
ومن المُؤكَّد أنّ لهذه القضيةِ تأثيراتها المُباشرة علينا في دول مجلس التَّعاون الخليجي لدول الخليج العَربية، اقتصادياً وسياسياً، ورغم أنّ العالم من حولنا يتحوَّط لتبعات الخروج، إلا أننا لم نَبدأ بعد في استشراف المُستقبل القريب، ولم ندرُس الآثار المُترتبةَ على ذلك، ومن هنا وجب تدارُك الموقف والبدء عملياً في وضع السيناريوهات للتَّعامل مع المُستجدات المُرتقبة.