مراحل الإلغاء

معاوية الرواحي

على النقيض من عَملية البناء تأتي عملية الإلغاء لكي تعيد الأشياء إلى الصفر. أتذكر المقولة الشهيرة الحمقاء التي تردد في أماكن كثيرة، أن العقول العظيمة تفكر في الأفكار، والعقول الجيدة تفكر في الأحداث، والعقول الغبية تفكر في الأشخاص.

لست أدري من القائل ولكنها جملة (كليشيه) غبية تردد ــ كما يبدو خارج سياقها ـ ولست بصدد تفنيد هذه المقولة الآن، وإنما بصدد تفنيد معكوسها.

تأخذ مراحل الإلغاء عدة أشكال ومراحل، وعلى عكس عملية التفكير التي تصنف بالجيدة والسيئة تبدأ المرحلة الأولى من الإلغاء بإلغاء الأفكار:

كيف يكون ذلك؟

لا يحتاج إلغاء الأفكار إلى عمل أشخاص، وإنما إلى عمل مؤسسات في العادة، مثل المؤسسات الصهيونية مثلا ومحاربتها لأي عقل حر يسمي الصهاينة بسماتهم، أو يصفهم بصفاتهم، مجموعة من المؤسسات التي تعمل في الظل والعلن تتولى مرحلة الإلغاء الأولى، وهذا مثال فقط، ففي عالمنا العربي المؤسسات التي تقوم بإلغاء الأفكار وشن الحرب عليها ليست قليلة، وفي الآونة الأخيرة لعبت أجهزة الإعلام المدعومة استخباريا هذا الدور ببراعة وظهرت النتائج واضحة في عدة دول. ومع قبح هذا الفعل ــ إلغاء الأفكار ــ وشيطنة الآخر والهجوم عليه لكنه قمع ناعم على الأقل، صحيح أنّ نهايته هي المرحلة التالية، ولكنه على الأقل يبدأ ناعما، ويتطور ويمكن الحد من تطوره في الوقت المناسب لو انتبه المنتبهون واستيقظ النائمون.

عندما تفشل عملية إلغاء الأفكار، تبدا عملية إلغاء الأشخاص، وهنا على العكس من عملية التفكير السابقة التي لست أدري من وضع قانونها الغبي هذا (الأشخاص ــ الأحداث ــ الأفكار) تكون المرحلة الثانية لعملية الإلغاء هي الأشخاص، وإليك ما حدث في مصر مثلا، بدأت بإلغاء (الأفكار) الثورية وذهبت مباشرة بعدها إلى الأشخاص وأبرز مثال على ذلك هو الإعلامي باسم يوسف، كذلك السياسة الإعلاميّة في الخليج بعد الربيع العربي المشؤوم، من الذي دفع الثمن؟ دفع الثمن الكتّاب وأصحاب الرأي، بعد نهاية الحدث أخذت عملية الإلغاء شكلها القبيح الذي نراه اليوم، بدءا من سحل إنسان حتى الموت في الشارع من قبل معارضيه بسبب فتوى دينية، أو تعرض كاتب إلى الضرب بسبب انتقاده الحزب الآخر، تتخذ عملية الإلغاء من الأشخاص هدفا لأنهم هم منبع الأفكار، وبالتالي هم الذين يوقفون المرحلة الأخيرة، فلو نجح ذلك، سيتوقف الحدث، وهذا هو أهم شيء لدى العقل (المُلْغي).

تفشل المرحلتان، كما تفعلان عادة. وهناك تبدأ عملية إلغاء (الحدث)، كما حدث في ثورة ليبيا مثلا، أو في الثورة ضد بن علي، فشلت المرحلتان بسرعة، فبدأت مرحلة (قمع الحدث)، وعندما تصل الأشياء إلى حالة الحدث فإنّه رصاصة واحدة كافية لحشد كل شيء، خطأ من إعلامي يقول كلمة خطأ كفيلة بإثارة الرأي العام خطأ من إحد الأمراء أو الشيوخ كفيل بجعل الحدث (يبدأ)، والحدث هُنا له صفة إلغائية خطرة للغاية، فهو لا يقيم وزنا للأشخاص، ولا للأفكار التي ينتجونها، الحدث أعمى وعشوائي وخطير، ولا تأخذه في الفوضى لومة لائم.

كل شيء يقود للنهاية نفسها. عملية التفكير لو بدأت من الأشخاص لذهبت إلى الأحداث لذهبت إلى الأفكار، ولو بدأت من الأفكار لذهبت إلى الأشخاص. أما عملية الإلغاء فتعاني من تناقض منطقي لا يمكن إصلاحه، لذلك تكون نهايتها مأساوية دائمًا، وفي عالمنا العربي اعتدنا على (اعتياد) ذلك، صار الإلغاء أداة مثاليّة لإلغاء ما يخيفنا أو ما نشكك فيه، هذا على صعيد الأشخاص، أمّا على صعيد المنظومات، مثل المجموع العام (المجتمع) أو الدول أو المؤسسات فإنّ هذه الأدوات هي المناجل المثالية لإقصاء المختلف أو المعارض، سواء كان ذلك معارضا لقناة إذاعية شهيرة، أو كان معارضا لرئيس تحرير جريدة حولها إلى جريدة أزياء تربح الملايين بعدما كانت جريدة رأي اجتماعي تكاد تفلس.

إنه لمخيف للغاية أن تصل الأشياء إلى حالة (منع الحدث)، الحدث أعمى ويأتي غالبا في بيئة تكون النفوس فيها قد شحنت بما فيه الكفاية، الحدث خطير ولا يمكن التراجع عنه، وله ما بعده.

ختاما أقول إنّه من حق الجميع أن يختلف، ومن حق الجميع أن يعبر عن اختلافه، ومع أن الاختلاف خيار في العالم أجمع إلا أنّ منطقتنا العربية تجعل كونك (مختلفا) قرار، وبالتالي مصير، وبالتالي معركة دائمة أمام مناجل الإلغاء التي عليك أن تكون حذرًا من أن يقتلع أحدها قدميك، ولولا رحمة الله بالعباد لاقتلعت المناجل الأرض من تحت أقدامنا، ولكن الله عليم بما يفعلون.

تعليق عبر الفيس بوك