د.عبد الله عبد الرزاق باحجاج
مثل ما توقعنا في مقالنا السابق، وزير الصحة أمام الشورى.. وتحديات الصحة الإقليمية، فقد غلبت المطالب الجهوية -الولايات- على المطالب الإقليمية -المحافظات-، وهذا شيء طبيعي من منظورين، الأول، حاجة الولايات الصحية المتزايدة، والثاني، الضغط الشعبي على ممثلي الولايات المُنتخبين عبر صناديق الاقتراع الحر للدفاع عن مصالحها، كنّا نرى في ذلك المقال أنّه ينبغي أن يعمل أعضاء كل محافظة من محافظات البلاد العشر خارطة صحية متكاملة ومتوازنة، تحدد فيها الأولويات الصحية، وكيفية تناغمها مع مركز الخدمات في الحواضر، أُسوة بعلاقة المستشفيات المركزية في محافظة مسقط مع مستشفيات المحافظات، صحيح ليست مثالية الآن رغم ما يطرأ عليها من تطورات ملموسة بسبب الإنفاق غير الكافي، لكنها تعطينا مؤشراً على نقل العلاقة بين حواضر المحافظات مع ولاياتها.
لن تتأتى لنا هذه العلاقة، إلا إذا ما أعطت للإدارات الصحية في المحافظات استقلالية ذاتية في التسيير والتمويل، وهذا النوع من الإدارة، نعتبرها الإضافة النوعية التي تحتمها الظرفية المالية التي تمر بها البلاد، وكذلك النمو الديموغرافي المتزايد داخل المحافظات، وشعور الجماعات المحلية فيها بنقص الخدمة الصحية رغم التطورات الكمية الكبيرة التي كشف عنها معالي الدكتور وزير الصحة طوال يومين متتالين في مجلس الشورى، فمن المؤكد أن (3%) من الناتج المحلي الإجمالي أو (5،5%) من الإنفاق العام، نسبة غير كافية للقطاع الصحي في بلادنا، فكيف ينبغي أن ننظر لها في المستقبل؟ وهذا المستقبل نستشرفه من انتقال بلادنا من حقبة الميزانيات التوسعية إلى سياسات ترشيد الإنفاق، وإعادة هيكلة الاقتصاد العماني ورفع الدعم الحكومي، فموازنة عام 2016، قد شهدت انخفاضًا في الإنفاق العام بلغ نسبة (11%) مما سوف يؤثر ذلك - طبعًا- على قطاع الخدمات الاجتماعية مثل القطاع الصحي، إذن، هل ينبغي أن يتأثر القطاع الصحي باللازمة المالية؟ الإجابة قطعيًا بالنفي المطلق، لأننا نتحدث هنا عن الحق في الحياة والحق في الصحة البدنية والعقلية والحق في التأهيل .. ومثل هذه الحقوق يقرها نظامنا الأساسي كما تقرها المواثيق العالمية، وهذان التشريعان يلزمان الحكومة بتهيئة الظروف التي تكفل الخدمة والرعاية الطبية للشخص في حالة المرض، وهذا يعني أنّه ينبغي على الحكومة أن تخصص ما يكفي من الأموال للصحة، وإذا كانت السيولة لن تسمح، هل يسقط عنها المسؤولية؟ لن تسقط أبدا، لأنها قد التزمت بتدبير وتسيير الشأن العام، ومن ثم تأمين الحقوق مقابل تأدية المواطنين الواجبات الملقاة عليهم، إذن، ما الحل؟ عليها أن تبتكر الحلول بوسائل غير تقليدية ونمطية، وذلك عبر البحث عن مصادر دخل جديدة ومُتعددة الأشكال، وقد قدم لها بعض أعضاء مجلس الشورى في لقائهم مع وزير الصحة مؤخراً حلولاً لقضية التمويل ينبغي على الحكومة أن تنفتح عليها، مثل الاقتراحين اللذين قدمهما سعادة المهندس محمد بن أبوبكر الغساني نائب رئيس مجلس الشورى، وهما الوقف الصحي، واستثمار الأصول الثابتة لوزارة الصحة كإقامة (موتيل) أو شقق مفروشة لمرافقي المرضى أو مرافق تخدم الزوار مُلحقة بالمستشفيات المرجعية .. وكذلك زيادة عدد غرف الترقيد، وجعلها على عدة مستويات من حيث خدمة المريض والمرافق له .. إلخ لكن الغساني يشترط أن يكون هذا التوجه عبر الشراكة مع القطاع الخاص ووفق تنافس عادل وشفاف حتى لا تستأثر به فئة معينة دون أخرى، ويدعم الغساني مقترح الوقف الصحي، بتجربة نجاح الوقف على مر العصور الإسلامية كمصدر تمويل دائم وثابت حقق مصالح المنفعتين الخاصة والعامة لأفراد المجتمع، كما قدّم سعادة الدكتور صالح بن سعيد مسن الكثيري رئيس اللجنة الاقتصادية مبادرة ينبغي أن تدرس لكي تعمم ليس على القطاع الصحي بل على صعيد الخدمات الاجتماعية كذلك في حقبة انتهاء الميزانيات التوسعية ورفع يد الدولة عن الاقتصاد، وهي تصب في معين تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ومن خلالها أي المبادرة، كسر ابن مسن الأداء التقليدي للعضو عبر نزوله إلى الواقع باحثًا عن حل لمطلب ولايته القديم، وهو مستشفى في ولاية ثمريت، وقد جاء لمناقشة وزير الصحة بحل لا بتجديد المطلب القديم، لأنّه يعلم مسبقاً أنّ مطالبته ستكون ضربًا من الخيال في حقبة انتهاء الميزانيات التوسعية، لذلك فقد أقنع شركة النفط العُمانية بتحمل التكلفة المالية للمستشفى كجزء من مسؤوليتها الاجتماعية تجاه مجتمعها المحلي، طالباً من الوزير أن تقوم وزارته بعملية التنسيق والمُتابعة مع الشركة التي اشترطت ذلك، وماذا يعني ذلك؟ يعني لنا أنّ هناك استعداد من قبل الشركات لتحمل مسؤوليتها الاجتماعية، لكن، كيف؟ ومن يصنع المُبادرة؟
إنّ نجاح نخبنا البرلمانية في تقديم الأفكار الجديدة والحلول الجاهزة للجهات الحكومية يعكس لنا هنا حسن اختيار المجتمع لنخبه البرلمانية، وهذا وعي اجتماعي عام لم يعد حكراً على المدينة بل البادية كذلك التي قادت لأول مرة حراكًا انتخابياً تنافسياً من أجل اختيار الأفضل، ولن نجده كذلك محصورا في محافظة دون أخرى، ويكاد يكون عاماً، من هنا، نتوقع أن يشهد الأداء البرلماني تصاعدًا خلال الفترة المقبلة بعد أن اكتسبت النخب البرلمانية إلى حدٍ كبير الثقة النفسية واختبرت العمل البرلماني وتجاذباته وتحدياته وتنافساته وكذلك سقطاته المحتملة، والمثير في نقاشات كل الأعضاء حتى وإن اخذت المناحي الجهوية-الولايات-، أنها تصب جميعها في مطالب تأمين التغطية الصحية الشاملة عالية الجودة في مجال الوقاية والعلاج والتأهيل رغم علمها بالظروف المالية، بينما كانت ردود معالي الدكتور وزير الصحة تلوح بمبدأ الأولوية، وحجية الكثافة السكانية، وهما تلويحان لم يعدا ينفذان للقناعات الاجتماعية، لأنّ الأولوية متغيرة، ولأن مبدأ الديموغرافية لم يعد ينظر إليه محليا وإنما من منظور طلب الخدمة الصحية من بعض دول الجوار وطالبيها سياحيًا، ولم تعد أية خدمة مقبولة في ظل انتشار الأمراض المزمنة، وإنما شاملة ومستدامة وعالية الجودة، إذن، يحتم على الحكومة التفكير في إيجاد مصادر تمويل بديلة تساهم في التخفيف من عبء الخدمات الاجتماعية بما فيها الصحة الملقاة على عاتق الميزانية العامة في عصر التقشف، وهو عصر لن يكون محكوماً بمدى زمني محدد، وإنما أصبح نهجاً مستداماً في ظل ما هو مطلوب من الدولة رفع يدها عن الأنشطة الاقتصادية وبيع مشاريعها للقطاع الخاص، وهنا نجد في مقترحي الغساني ومبادرة بن مسن رؤية للانفتاح على المصادر البديلة الممكنة التحقيق - سنتناول مبادرة بن مسن في مقال خاص- وإذا لم تفعل، فما هي بدائلها؟ ميزانية الدولة غير قادرة على زيادة الإنفاق على الصحة،لا حاضرا ولا مستقبلا،، مما قد يؤثر ذلك على الخدمات الاجتماعية الملقاة على عاتقها، تاريخيًا، وهذا يعد تحولاً جوهريًا لابد من ضمان نتائجه حتى لا نفقد المجتمع، ليس هناك من خيار سوى الانفتاح على المصادر البديلة، وحتى في حال تبني الخيارات البديلة والمساعدة لابد من أن يصاحبه تطور في استقلال الإدارات الصحية حتى تكون لديها المسؤولية الكاملة والديناميكية التلقائية في القيام بعمليات البحث عن التمويل الإقليمي وتحديد مسارات إنفاقه حسب الأولويات الصحية المتفق عليها، فكل محافظة من محافظات تتمتع بثروات لم تستغل مثل الوقف والزكاة ... إلخ فكيف لا يتم تدويرها على احتياجات كل محافظة؟ لو اقتنع كل مجتمع محلي بأن تلك الأموال توظف لخدماته الاجتماعية .. سنتطلع وبسرعة فائقة إلى إقدام كل قوة اقتصادية وربما اجتماعية على تخصيص نسبة محددة من دخلها تلقائيا وبشكل منتظم على الخدمات الاجتماعية، كزكاة أو صدقة، فهل مثل هذه الأفكار ستعني شئياً للحكومة؟ وإلا، فإنّ إنفاقها الحالي على الصحة، وكذلك مستقبلا، لن يستوعب الحق في الصحة الإقليمية- المحافظات- ولا الجهوية -الولايات- .