علمني ولدي

نجوى الدرعاوية

كلُّ شيء كان عاديا، حمل مفعم بأحلام أم تنتظر أن ترى مولودا بهيَّ الطلعة سليما، واستعدادات لاستقبال الوليد. الحسين، بكى ككل القادمين إلى العالم، لم أرَ فيه شيئا مختلفا غير عيونه التي بها ميلان إلى الأعلى. وبحدس الأم عرفت أنه مصاب بمتلازمة داون، وأكدت لي الفحوصات ذلك فيما بعد. أحسست كأني فقدت التوازن. كيف سأتعامل مع طفل متخلف عقليا؟ فهذه هي المعلومة الوحيدة التي كنت أعرفها عن المصابين بهذه المتلازمة في ذلك الوقت. وظللت شهورا في حالة من الصدمة، أقرأ وأبحث في شبكة المعلومات عن كل ما يتعلق به وعرفت الكثير الكثير.

مع الأيام اتضحت ملامحه أكثر: أنف صغير ولسان يبدو أكبر من العادي مع يدين صغيرتين، وبعد شهور كنت أراه يبتسم ويهتز عندما يستمع إلى أي نغم. قرأت عن أم بريطانية أنجبت طفلا مصابا بمتلازمة داون، قال لها الطبيب لا تنتظري منه شيئا لا أمل يرجى منه، انقطعت هذه السيدة عن العمل وتفرغت لرعاية ابنها والاهتمام به إلى أن كبر وتعلم القراءة والكتابة وأصبح معتمدا على نفسه.

حينها، أغلقت الكتب وتوقفت عن محاولة معرفة أي شيء. هذا هو قدري، بدأت أستعيد إيماني، لقد وهبني الله هذا الطفل لحكمة بدأت أنظر إلى وجوده من زاوية إيجابية. تعاملت معه كطفل عادي. تأخر في الجلوس لكنه جلس في عمر السنة ولم يخط الخطوة الأولى إلا بعمر الثالثة. هو طفل سعيد، عاطفيته انتقلت إلي فزاد احساسي بالمحيطين بي وبالعالم كله.علمني الحسين معنى الرحمة والتسامح والصبر، علمني الاندفاع والحماس أعاد إليَّ طفولتي وجعلني مثله أضحك بغير سبب.

الحسين الآن في عُمر السابعة ينطق بضع كلمات ويكون جملا بسيطة، يركض باتجاه الحديقة وأماكن اللعب ولا يرضى العودة إلا البيت إلا وقد أنهكه التعب، يتطفل على مرتادي الحديقة ويسلم ويجلس في وسطهم ويكلمهم بلغته التي يبدو وكأنه استوردها من كوكب آخر.

عندما يُشاهد شبابا يلعبون كرة القدم يتحمَّس ويقف مقلدا حركاتهم ويصفق عندما يسجلون الأهداف، هو مستمتع بطفولته، لن أحرمه من الأماكن العامة حتى وإن بدا غريبا للبعض، لن أحبسه في البيت وأخفيه عن العيون، بعضهم يعتقد أنه مريض وآخرون يحسبونه مجنونا.

لا أنكر ازدياد الوعي وتغيُّر نظرة بعض الناس لأطفال متلازمة داون بحكم تسليط الإعلام الضوء عليهم. لكن هذا لايكفي بالنسبة لي ولكل الأسر التي تتعايش مع طفل مصاب بهذه المتلازمة نحن نحلم بمجتمع يتقبل أطفالنا ويدرك أن هذه الحالة ليست مرضية. نحن نريد وعيا بعيدا عن نظرات أو عبارات الشفقة الجارحة.

كما نحلم بتأهيل شامل لأطفالنا ومراعاة للفروق الفردية بينهم في تعليمهم. نريد برنامجا حقيقيا للدمج يسمح لمن له القدرة من أطفالنا أن يتعلم مع الأطفال العاديين -إن لم يكن في الحصص ففي بعضها- لأن أطفالنا يتعلمون بالتقليد. الكثير من المدارس والروضات وحتى الحضانات ترفض استقبال أطفالنا، بينما نحلم بأن تكون لنا الحرية والدعم المادي لإلحاق أبنائنا بالمراكز والمدارس التي تناسبهم. نحلم بتأهيل رياضي قد يحوِّل أبناءنا يوما ما إلى أبطال يفخر بهم وطنهم. نحلم بتأهيل مهني يجعل من أطفالنا فاعلين في المجتمع لا عبء عليه.

نحلم بأن نرى الجمعية الوليدة "جمعية متلازمة داون" التي تنشط منذ سنوات، وقد تم الاعتراف بها رسميا منذ سنة ونصف السنة، لها فروع في كل عُمان وتستوعب كل المصابين بهذه المتلازمة في السلطنة ويتوفر لديها الدعم الكافي لتأهيلهم. ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا بمزيد التكافل داخل المجتمع ودعم جمعية متلازمة داون لتكون المظلة التي يستظل بها أطفال متلازمة داون وأسرهم، نريد دعما حقيقيا متواصلا للأسر لا مناسبتيا ينتهي بتوزيع الهدايا ثم تعود الأسرة مع ولدها لتتحمل بمفردها العناية بالطفل الذي يحتاج للكثير.

أفكِّر بكل هذا وألتفت إلى الحسين فأجده مشغولا بسياراته وألعابه وهو مبتسمٌ، أحلم بالتأهيل والمستقبل بينما يحلم الحسين فقط بأن يكون سعيدا.

najwa.darawi@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك