مؤسسات التعليم العالي وضبابية الدور المدني

د. سيف المعمري

إنّ القوى المحركة للتقدم في أي مجتمع اليوم هي المواطنين المستنيرين الذين يعملون على إنجاح أي مشروع وطني تنموي أو يقودون إلى إخفاقه، لأن الثروات الاقتصادية في حد ذاتها لا يمكن النظر إليها على أنها قوة محركة للتقدم إن لم يوجد العنصر البشري المؤهل والواعي، الذي يستطيع أن يحافظ على هذه الثروات، والدليل واضح في المنطقة؛ حيث وجدت بلدان تتمتع بثروات اقتصادية ضخمة لكنها لم تقد هذه المجتمعات إلى بناء فضاء وطني يدفع الجميع للعمل على أهداف واحدة، وبدلا من ذلك قادت إلى إنتاج حالة من السلبية والاتكالية التي لن تقود إلى انتكاسات وإخفاقات في لحظة أصبح للإخفاق ثمنا كبيراً.

إنّ الربط بين مؤسسات التعليم العالي والوظيفة المدنية لم يحظ حتى الآن بالاهتمام الذي يستحقه، لأنّ الخطاب دائمًا يتمحور حول ربط التعليم بسوق العمل الذي يفرض على الجامعات والكليات نوعية برامجها وأنشطتها التي تركز على إعداد مهنيين وفنيين، ولقد أدى هذا التوجه في بلدنا خلال عقد ونصف إلى تخريج خريطة التعليم العالي؛ حيث بدأت خصخصة التعليم العالي مما أدى لتساوي نسبته مع المؤسسات الحكوميّة في القطاع، كما عمل قادة هذه المرحلة إلى تقليص أعداد الكليّات الإنسانيّة بشكل كبير وزيادة عدد الكليّات التطبيقية والتقنية، وكان أبرز مظاهر ذلك التقليص هو إلغاء كليات التربية، والنتيجة التي وصلنا إليها هو بطالة في صفوف خريجي الكليات التقنية والتطبيقية، وشح في أعداد الخريجين المطلوبين للعمل في قطاع التعليم على سبيل المثال، وهذه إحدى التفاصيل البسيطة للحكاية الكبيرة للتعليم العالي، وليس الهدف في هذا المقال هو التركيز على نقاط الضعف في التخطيط الاستراتيجي للتعليم العالي فهذا بات واضح المعالم، ويعلمه الجميع، لكن الهدف هو تسليط الضوء على علاقة هذه المؤسسات التعليميّة في القيام بدورها المدني أو الأهلي لمن يفضلون استخدام الكلمة الأخيرة، وما دعاني إلى طرح هذا الموضوع هو المشروع الكبير الذي تقوده منذ عامين "الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية" حول البعد المدني للجامعات العربية حيث يعمل عدد كبير من الخبراء من الوطن العربي - وأنا من ضمنهم- على دراسة (36) جامعة من جامعات الوطن العربي، وعقد هذا الأسبوع مؤتمر لعرض بعض النتائج الأولية للمشروع تحت عنوان "الدور المدني للجامعات العربية"، والنتائج الأولية تشير إلى أنّ الجامعات في المنطقة العربية لا تزال في خطابها ورسالتها وبرامجها ومقرراتها وأنشطتها تعطي اهتماما ضعيفا لهذا الدور المدني، حيث لا تزال تركز على التدريس فقط، وتؤدي بعض الخدمات البسيطة كخدمة مجتمع، عادة يكون المبادر فيها المجتمع وليس مؤسسات التعليم العالي.

إنني أطرح الموضوع في هذه المرحلة التي يخضع فيها التعليم بشكل عام إلى نقاشات مستفيضة من قبل مختلف الأطراف الحكومية ومجلس الشورى والمجتمع، والهدف هو تطوير هذه القطاع ومعالجة نقاط الضعف الشائكة التي تعترضه، ووفقا لمتابعاتي القريبة لما يجري حول هذا الموضوع، أجد أنّ الحراك الحالي يركّز على مسارين فقط، هما: الأول يمكن أن نطلق عليه مسار الجودة والذي تقوده الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي، أمّا المسار الثاني فهو مواءمة البرامج مع متطلبات سوق العمل، ولا نجد مسارا ثالثا يركز على الدور المدني لهذه المؤسسات التعليميّة على الرغم من أنّ كثيرا من جامعات العالم منذ ما يزيد على عشر سنوات بدأت تخرج نفسها من الإطار الضيق للوظائف الثلاث وهي (التعليم والبحث وخدمة المجتمع)، حيث وقع في عام 2005، (29) رئيس جامعة من (23) بلدًا، إعلان عرف بإعلان "تالوار" (Talloires Declaration) حول "الأدوار المدنية والمسؤولية الاجتماعية للتعليم العالي"، من بينها أربعة بلدان عربية، ووصل عدد الجامعات الموقعة في عام 2012 إلى (247) جامعة وكلية، ووفقا لهذا الإعلان أنشئت شبكة إقليمية عربية عرفت بـ (تحالف الجامعات العربية نحو المشاركة المدنية-معاً) في عام 2008م، بهدف تشجيع تطبيق الالتزام المدني وتحسينه في التعليم العالي، بهدف تحسين المجتمع والتنمية من خلال تحسين نوعية الخريجين الذين سيقودون مختلف القطاعات في هذا المجتمع.

إنّ الدور المدني أو تعزيز المسؤولية الاجتماعية المقصودة في هذه الإعلانات هي ليست المفهوم الضيّق للخدمة الاجتماعية التي يتم التركيز عليها حاليًا في خطاب مؤسسات التعليم العالي، فهو- أي الدور المدني- مفهوم واسع يشمل مجموعة من الأبعاد هي: الديمقراطية، والمواطنة، وثقافة القانون، والالتزام المدني، وتعليم الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، والتقصي والمداولة في التدريس، وهي أبعاد تمتد من الغرفة الصفية إلى المجتمع الخارجي، هدفها بناء مؤسسة تعليم عال ليست منعزلة عن المحيط الذي توجد فيه، أو أنّها لا تقوم بعزل الطلبة الذين تعمل على تدريسهم عن واقع النقاشات والقضايا التي ترتبط بتخصصاتهم ومجتمعهم، ولا تقوم بجعلهم مستمعين سلبيين ليس لهم أي دور في عملية تعلّمهم، أو في المشاركة في قرار المؤسسات التي تعمل على خدمتهم، تؤهلهم للالتزام بقيم مهمة لاستقرار المجتمع وهي احترام الآخر، واحترام القانون، والالتزام بالحقوق والواجبات، والتقصي، والبحث، والعمل في مشاريع تعاونية، والعمل من أجل المجتمع، وامتلاك مهارات مدنية، والالتقاء حول أهداف مشتركة ووطنية بدلا من التمحور حول أهداف فئوية.

هل مؤسسات التعليم العالي لديها دور مدني مخطط لها وواضح في رسالتها وخطابها وبنيتها التشريعية؟ هذا سؤال لا استطيع الإجابة عنه حاليا، فالأمر يتطلب تقصيا ودراسة معمقة، ولكن يمكن لنا أن نطرح سؤالا آخر هو هل يجب أن يكون لديها هذا الدور وفق مفهومه الواسع؟ الإجابة نعم وهناك العديد من المسوغات التي تجعلني أقول إنّ مؤسسات التعليم العالي يجب أن تقوم ببناء "مخزون مدني" لنا، لأنّ هذا المخزون ضروري لاستثمار التحولات المتعددة التي مرت بها البلد، وللتعامل مع التحديات التي تواجهه؛ سواء اليوم أو مستقبلا، فلا يمكن أن نواجه ذلك إلا بمواطنين واعين، لديهم إيمان بقيم العمل معا من أجل الوطن وتقدمه وتماسكه، وتحقيق الصالح العام للجميع، ويكفي أن نستعيد حالتين حتى ندرك أهمية هذا الدور المدني لمؤسسات التعليم العالي، الأولى كانت التعليق الذي صدر من وكيل وزارة النفط حول الفرق في سعر البترول وتشبيه له "بسعر الشوارما"، مما استدعى حالة هستيرية من التعليقات التي لا أحد يعترض على حق أصحابها في التعبير عن رأيهم حولها، ولكن التحفّظ يظل هو "الجمل والعبارات التي استخدمها كثيرون" خارج أطر الحوار العقلاني الذي يركز على الموضوع وليس على الشخص، أمّا الحالة الثانية فالمقالات التي تطرح حول الاستبداد والفساد والاحتكار والإقصاء الذي تعيشه كثير من جمعيات المجتمع المدني، والذي يعبر عن أزمة حقيقية في القيم قادت إلى ضرب جوهر هذه الجمعيّات، وإبعادها عن رسالتها الحقيقية في النهوض بالمجتمع، والمشاركة في حل إشكالياته، بدلاً من عزل نفسها عنه، وتضييع موارد بشرية ومالية تحصل عليها من أجل هذا الهدف.

لا يكفي أن نربط مؤسسات التعليم العالي بسوق العمل، لأن ذلك يقود أحيانا إلى صناعة بطالة عملية ومدنية، ولكن إن بدأت هذه المؤسسات في التركيز على كلا المسارين؛ فإنّها تزوّد المجتمع بمخزون مدني من الخريجين القادرين على التعاطي مع مختلف الأوضاع التي قد يمرون بها أو يمر بها مجتمعهم، فهم الأداة الفعّالة للنهوض وحل الإشكاليات.

تعليق عبر الفيس بوك