الوطنيّة الصامتة

د. سيف المعمري

يصبح الصمت نعمة حين لا يكون للكلام معنى، فليس هناك أسهل من كلام لا يحمل صدقاً، وليس هناك أصعب من صمتاً في لحظات تتطلب الكلام، وأولئك الذين يؤمنون بالصمت قليلون، فالصمت لم يصبح سياسة، وإلا لما كانت كل هذه الصراعات التي بدأ بعضها بكلمة. وتفاقم معظمها بكلمات قليلة في غير محلها، والصمت لم يصبح بعد نهجاً، وإلا لما ضاع كثير من الذهب من أمتنا، وعالمنا، الحكماء هم الذين لا يتكلمون إلا قليلاً، لأن قليل كلامهم عميق في معناه، يظهرون في صمت، ويرحلون في صمت، ويعودون في صمت، وما يحركه هذا الصمت داخل القلوب، لا يمكن أن تحركه كثير من الخطب الحماسية، وهناك وطنية صادقة تنبت في صمت، وتعبر عن نفسها بعفوية، إنها وطنية تسكن القلوب، وتظهر في الوجوه، تمضي في صمت وتنمو في صمت، وتقوى في صمت، لا يغيرها أي شيء، ثابتة لا يمكن أن تؤثر عليها أي تقلبات. كم نحن محتاجون لقراءة الوطنية الصامتة، في هذه اللحظات التي لا يقين فيها إلا لما انطلق من مبادئ وأسس واضحة، ولا ثبات فيها إلا لما كان ثابتاً، ولا بقاء فيها إلا لتلك الرابطة التي تعبر كل التكهنات وترتقي فوق كل التوقعات، فما تقوى به البلدان اليوم هو الشعور الوطني الواعي الثابت.

لقد استوقفني المشهد، واستوقف كثيرون، لحظة الصمت التي وصل فيها مولانا السلطان المعظم بدون أي تحضيرات واستعدادات، ولحظة الصمت التي غادر فيها البلاد، والفرح الذي ظهر بصمت بعودته، أنّه مشهد يستحق أن يُقرأ بتأن في هذه اللحظات، التي يبدو فيها مشهدا صامتا إلا أنه في الواقع ينطق بكثير من المعاني العميقة التي لن يفهما إلا العمانيون، الذين يحملون حبا لن يدركه أحد لسلطانهم، الذي عمل طوال العقود الماضية إلى زراعة معانٍ وقيم سامية في قلوبهم، أهمها الحفاظ على الوحدة الوطنية بالمحبة الصادقة التي لابد أن تتمكن من القلوب قبل أي شيء، وما تحمله القلوب يظهر فرح في الوجوه لا يضاهيه أي فرح، فرح لا يمكن أن تنقله الكلمات، فرح لن يعرف أحد عمقه إلا إذا فتحت قلوب العمانيين واحدًا تلو الآخر، هذا الحب هو مصدر قوة هذا البلد، وإذا أردت أن تعرف مستقبل أي بلد فلاحظ الرابطة التي تربط المواطنين بقائدهم، لأنّ هذه الرابطة تعطي مؤشرًا جداً مهماً على الاستقرار والتماسك الوطني الذي يواجه به مواطنو أي بلد التحديات التي تواجههم، والعمانيون يواجهون هذه التحديات دائما بهذا الالتفاف والتماسك الذي تعززه قيم الاعتدال والوسطية والتعقل وعدم الانفعال في كل الأوضاع.

إنّ الذين يبحثون عن أجمل ما في عمان، فعليهم أن يدققوا في مشهد الوطنية الصامتة في الأسبوع الماضي، حين كان الفرح الذي ظهر على الوجوه أكبر من أن تعبر عنه الألسن، فالذين يحملون كل هذا الولاء والتقدير للرجل الذي حمل المشاعل لكي يعم كافة أرجاء البلد النور، لن يتوانوا عن تحمل المسؤولية العظيمة في الحفاظ على "عقد وطني" ترسخ عبر عشرات القرون، ولن يسمحوا لأي شيء أن يتسلل إلى قلوبهم وعقولهم يمكن أن يؤثر فيه، سيعملون بصمت وسيدخرون الكلام، من أجل أن تواصل بلدهم مسيرتها الطويلة، فهناك الكثير الذي لابد أن ينجز، وهناك الكثير الذي لابد أن يعطى، فالأوطان لا يمكن أن تتقدم دون تضحيات، ولا يمكن أن تنجز بدون إرادات، فالإرادات تولد الإنجازات، والفجر الذي بشر بها صاحب الجلالة السلطان المعظم في بداية السبعينيات، وعمل خلال هذه العقود للحفاظ على تدفق نوره، لابد أن يستمر بفكر الشباب ووعيهم وتفانيهم وإخلاصهم، فهذه بلد ينفق فيها الشباب أعمارهم من أجل إكسابها مناعة تجعل كل التحديات والإشكاليات تتكسر على أعتابها، شباب يصحون فيما الناس نيام، ويستمعون ويتعلمون حين الناس يتكلمون، لأنّهم يدركون ما قاله ماركوس أوريليوس "لا مجد لك بمعزل عن مجد قومك، ما لا يفيد السرب لا يفيد النحلة، لا مجد لنحلة في خلية منهارة".

ما يحتاجه الوطن منا اليوم أبسط مما نتصور، وأسهل مما نظن، يحتاج منا لحظة نتأمل فيها دورنا في مواصلة هذا الوطن لمسيرته، يحتاج منا وطنية تعمل في صمت، وتنجز في صمت، فالوطن يحتاج الأفعال أكثر مما يحتاج الأقوال؛ لأنّ الأفعال هي الترجمة الحقيقية للانتماء، والانتماء الصادق يثمر دائما عملاً، وهذا هو نهج المواطنة الذي جسده بصمت صاحب الجلالة السلطان المعظم خلال العقود الماضية، والمضي وفق هذا النهج سيحقق للبلد الكثير، فالقيمة دائما في المعاني لا في الكلمات، في ما يُقرأ في الوجوه لا ما فيه تقوله الألسن، وما تقوله القلوب كلها في جميع أرجاء عمان "حفظ الله مولانا السلطان المعظم، وأطال في عمره رمزًا وأملاً لعمان وشعبها".

تعليق عبر الفيس بوك