الرقيق المعاصر

رحاب أبو هوشر

كان موريس جعجع -الاسم الأكثر تداولا في وسائل الإعلام خلال الأسابيع الماضية- يمارس عمله من سجنه، حيث كان موقوفا لمدة ثلاثة أشهر بتهمة تسهيل الدعارة. كان لا يزال قادرا على إدارة سلسلة الملاهي والأندية الليلية التي يملكها في لبنان، كواجهات لنشاطه الأساسي في إدارة أعمال الدعارة. ولم نكن لنعرفه أو لنعلم شيئا عن نوع أعمال "مملكته" المالية والعقارية، لولا الإعلان عنه بوصفه مدير أكبر شبكة للاتجار بالبشر، تم الكشف عنها مؤخرا في لبنان.

وكانت هذه الشبكة ستظل مجهولة كغيرها من الشبكات، لولا هروب فتاتين من سجن "الرقيق الأبيض"، ولجوئهما لمركز شرطة، وإدلائهما بمعلومات عن وجود 75 فتاة، معظمهن من اللاجئات السوريات، يخضعن للعبودية في أقبية "جعجع" خلف واجهات الترفيه البراقة. تم اختطافهن بعد إيهامهن بالعمل في وظائف، ليتم حبسهن، وتجريدهن من إنسانيتهن، وإجبارهن على ممارسة الدعارة، وتعريضهن لصنوف التعذيب والإيذاء، والاستغلال الوحشي، حتى تتسع مملكة "جعجع" وشركائه في الشبكة، وتتضاعف أموالهم من أعمال النخاسة، تماما كما كان المستعمر الأبيض يصطاد الزنوج من إفريقيا، ويضمهم عبيدا إلى ممتلكاته.

لن يلطف استخدام مصطلح "الاتجار بالبشر" من حقيقته، فما هو إلا محاولة لعصرنة مصطلح "العبودية"، والإيهام بأنَّ زمنها مضى بلا رجعة، ولكن الواقع أنها لم تنته في العالم كله، رغم مضي أقل من قرنين على الإعلان العالمي لإلغاء العبودية. إن شبكة "جعجع" واحدة من شبكات العبودية المستترة خلف أعمال مرخصة ومشروعة. مافيات من مجرمين محليين أو عملاء لمافيات عالمية، بضاعتهم البشر، تعد أعمالهم اليوم من أهم قطاعات المال القذر، وأوسعها نشاطا في المنطقة، فتسليع البشر وامتهان كراماتهم، والتخلص منهم قتلا إذا لزم الأمر، أصبح عملا يدر أموالا طائلة على عصابات، تستهدف هوامش الفقر والبطالة، وأفضل مواسمها تكون على ضفاف الفوضى ومآسي الحروب والتشرد. لم تكن اللاجئات السوريات أولى ضحايا هذه الشبكة، فالمشترك بينهن وبين غيرهن، كان الفقر وانهيار مقومات الحياة. مع كل كارثة تصيب مجتمعا، كانت النساء الضحية الأمثل للاستعباد الجنسي. نساء أوروبا الشرقية وأفريقيا وغيرها من البلدان الفقيرة، سلع رائجة لشبكات الدعارة القسرية في أوروبا وأمريكا حتى اليوم.

لكن هذه الشبكات لا تستطيع العمل والاستمرار، إلا بتواطؤ مناخ الفساد، السياسي والأمني والاجتماعي، وعقد التحالفات معه، فكيف أمكن لـ"جعجع" كما أوردت الأخبار، أن تكون أنديته معروفة طوال سنين بأنشطة الدعارة، دون أن يتعرض لعقوبة سجن حقيقية، ودون إغلاق أنديته؟ بل وكيف أمكنه أن يدير شبكة تمثل خطرا على القيم الإنسانية والاجتماعية، وعلى الأمن والسلم، بينما يفترض أنه محتجز لدى أجهزة أمنية؟ نعرف جميعا، أن الأعمال القذرة وغير المشروعة، كالمتاجرة بالبشر أو المخدرات، تجري بالتعاون مع الفساد في مراكز القرار السياسي وفي الأجهزة الأمنية. ثمة رشى وحصص مالية، وخدمات جنس مجاني في حالات الدعارة، وثمة صراعات مسلحة بين الطرفين لحسم ما يطرأ من خلافات!

وإن كانت الدعارة القسرية أكثر أنشطة شبكات العبودية شيوعا، إلا أنها لم تعد تقتصر على النساء، فاليوم نسمع عن دعارة قسرية للرجال أيضا، كما أنها واحد من وجوه تسليع الإنسان واستعباده، فقد اجتذبت فوضى الحروب وغياب الدولة في المنطقة، عصابات دولية متخصصة باختطاف وبيع الأطفال، لاستثمارهم في مهنة التسول، ولأصحاب الرغبات الشاذة. وهناك عصابات قتلة، يتاجرون بالأعضاء البشرية، يعيثون بأجساد الضحايا، وينتزعون منها ما يصلح للبيع، ويتركونهم جثثا أو شبه موتى. أما تجار الكلى والدم البشري، فهؤلاء يقتاتون على بؤس الفقراء في العشوائيات ومدن الصفيح منذ سنين طويلة. وأكثر أشكال العبودية لأسباب ثقافية واجتماعية، ما يحدث لعاملات المنازل في حالات الاستغلال الجنسي، وممارسة العنف عليهن، وحرمانهن من رواتبهن وحقوقهن العمالية، فكل ذلك انتهاك لإنسانيتهن لا يخرج عن ذلك التوصيف.

مملكة العبودية، التي أدارها "جعجع"، ذات شكل تقليدي ينتمي لزمن مضى، فغالبا ما كان يتم ربط شبهات الاستعباد الجنسي، بأنشطة ترفيهية كالنوادي الليلية والفنادق. ذلك زمن ولى، فشبكات "الاتجار بالبشر" أصبحت أكثر خبرة ومهنية، لا سيما مع تعدد قطاعاتها، فخرجت من ذلك القالب التقليدي، لتعمل خلف يافطات، لمشاريع اقتصادية ضخمة، وشركات تجارية لامعة، ومكاتب خدمات عامة، ويتحرك أعضاؤها في الشوارع وبين البيوت لاقتناص فرائسهم، ويجندون طلابا وطالبات في المدارس والجامعات لتسهيل عملهم.

تعليق عبر الفيس بوك