حريَّة التعبير.. بين القيمة والانفلات

عنقاء الروح

الحريَّة بمختلف أنواعها مفهوم واسع تعدت تعريفاته كما أحصاها المؤرخون "مائتي تعريف"، لذلك قد أجمع أغلبهم على أنه مفهوم هلامي ومطاطي، ورغم أنها الغاية الأسمى كما وصفها الفيلسوف الألماني هيجل إلا أنه اعترف بأنه "لا توجد فكرة يعلم الناس أجمعين بأنها فاقدة للتحديد معرضة للالتباس قابلة لشتى صنوف الانبهام -بل صريعته بالفعل والعيان - قدر فكرة الحرية". وفي الحقيقة الحرية هي من أكثر الأفكار تداولا في الكتب وحتى في الحوارات بين الناس ولكن يبقى اللبس في معناها قائما رغما عن ذلك، وقد فسر بعض الفلاسفة ذلك إلى خلط الناس بين "الحرية العاقلة" التي تعلم ما تتطلبه ضرورة التعايش المستكين في المجتمع وبين "الحرية الذاتية المطلقة" الثائرة على كل شيء. لذلك وجب هنا التوضيح قبل أي شيء أن مفهوم الحرية الذي اتفق عليه معظم الفلاسفة وفردوا له كتبا عديدة وأذكر منهم الفيلسوف كانت والفيلسوف شلينغ هو أنها "المقدرة على الفعل، والفعل العاقل بالذات".

ورغم صعوبة الإلمام بموضوع متشعب وشائك كهذا، ارتأيت أهمية طرحه بكل شفافية وأخترت التركيز في هذا المقال على حرية التعبير على وجه الخصوص في ظل ما نراه حولنا من فوضى في وسائل الأعلام المختلفة، ووسائل التواصل الاجتماعي بعد تداعيات الربيع العربي، فالانفلات الحاصل يؤكد وجود خلط جسيم حتى أصبح الكثيرون يلوحون برايات حرية التعبير ويستشهدون بالغرب، وكأن حرية التعبير في هذه الدول مطلقة ليس لها حدود ولا ضوابط، وفي حقيقة الأمر أن ذلك غير صحيح البتة، فلا يمكن أبدا لأي مجتمع أن يحافظ على أمنه واستقراره بدون ضوابط تحقق له التوازن المطلوب.

وبالرجوع إلى القوانين التي تضبط حرية التعبير في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، نجد أن القيود الحكومية على حرية التعبير فيها غير دستورية، إلا في الحالات التي تتجاوز فيها الحرية "مصلحة ضرورية وملحة للدولة " ومن هذه الحالات: الخطاب الذي قد يؤدي إلى عمل غير قانوني، الخطاب الذي يستخدم التنابز بالكلمات وقد يدفع الناس إلى العراك، استخدام الكلمات البذيئة المسيئة التي قد تخدش الحياء العام وتفتقر إلى أي قيمة فنية أو اجتماعية، وعبارات التشهير والافتراء بدون تقديم أدلة على توافر القصد والنية أو الإهمال.

ولا تختلف المملكة المتحدة المعروفة في جميع أنحاء العالم باحترامها لمبدأ حرية التعبير وهوادتها في التعامل معه كثيرا عن الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك نجد أن المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي تم إدراجها في قانون المملكة المتحدة بموجب قانون حقوق الإنسان لعام 1998م نفسها تعترف بالحاجة إلى وضع بعض القيود على حرية التعبير، ولكنها تنص على أن تلك القيود يمكن فرضها فقط من أجل تحقيق أهداف معينة ومحددة، وفقط بالقدر الضروري لتحقيق تلك الأهداف، وتدرج الاتفاقية العديد من الأسباب المسموح بها للحد من حرية التعبير، بما في ذلك الأمن القومي، وحماية الصحة العامة، والأخلاق العامة، وحماية حقوق الناس وسمعتهم.

وبعد إدراج كل ما سبق، يُمكننا الآن أن نتفق على أنه وحتى المجتمعات الأكثر تسامحا وجدت ضرورة لوضع بعض القيود على حرية التعبير، ومعظم القوانين المتعلقة بحرية التعبير تحاول تحقيق التوازن الصحيح بين حرية التعبير واستخدام (أو سوء استخدام) هذه الحرية بطريقة تضر المجتمع، فماذا نسمي ما نراه في وسائل الأعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي اليوم؟ هل يمكننا أن نسمي الاتهامات الخالية من البراهين والأدلة حرية تعبير؟ هل يمكننا ونحن بكامل قوانا العقلية، استخدام عبارات استفزازية من شأنها التحريض على العنف ونحن نلوح برايات حرية التعبير؟ هل يمكننا كمجتمعات لها خصوصياتها ويحكمنا الدين والعادات والتقاليد، أن نتمادى في حوارات دينية شائكة بدون معرفة أو تخصص مما قد يولد مشاحنات وعواقب وخيمة؟ هل يمكننا في أبسط توصيف إذا ما وضعنا طبيعة مجتمعاتنا في الحسبان اعتبار الألفاظ الخارجة والخادشة للحياء العام، التي لا تحمل أي قيمة في الروايات والأشعار وحتى البرامج والأغاني حرية تعبير؟!

في الحقيقة نحن بحاجة ماسة إلى وقفة جادة مع أنفسنا نراجع فيها معنى مسؤولية الكلمة والعواقب المترتبة عليها، نحتاج فعلا أن نعي أن على كل فرد معرفة مسؤوليته وتأديتها قبل أي شيء، لأن نتعلم معنى الحرية المسؤولة، التي تبدأ بنا قبل أن تمتد لمسائلة الآخر، الحرية التي تعي أن تأدية الواجب تأتي قبل المطالبة بأي حق؛ وأن حريتنا تنتهي عند حدود الآخرين، وأذكر بهذا المعنى مقولة جميلة لأحد أكبر مفكري الحرية " ألكسيس دو توكفيل" حيث قال: ( لن أمل أبدا من تكرار القول: لا شيء أكثر خصوبة من فن أن يكون المرء حرا، لكن لا شيء أكثر صعوبة من تعلم الحرية ) فهلا صمتنا قليلا لمراجعة حقيقية وعميقة لأنفسنا وللوقائع والأحداث لربما تعلمنا معنى الحرية ؟!

المحافلُ مثقلةٌ بالكلمات

وحدهُ الصمت يرفرف بالحكمة

ينهلُ من شهد الحرية

المعرفةُ جفلى

تمد أجنحتها إلى ما وراء الضجيج

حالمة بالسكون

والمعاني السميَّة

يقول الجناحُ والعتمةُ تعتصرُ قلبَ الهواءْ

حرٌ أنتَ بأنفاسكَ

مقيدٌ إلى أن تنيرْ

لا تثريب علي

أنا ما كحلتُ طرفَ الكلامْ

ولستُ ممن يرومون صيتا بصخب الجدالْ

الفجر لما يزل يمشط شعرَ الحقولْ

غير عابئ بالزحامْ

يقرأ وصايا السلامْ

وأمانيَ الأطفالْ

فافتح ضلوعك للفجرِ

لتتنفس السماءْ

وأعلم أن بعض البريق شرَكٌ

وبعض البريق سناءْ

لا تنبت نفس من وحشةٍ

ولا يحجب الشمسَ غطاءْ

رُب حرفٍ أجزلُ من قائليه

رُب حلمٍ أنقى من حالميه

رُب وسيلةٍ أبهى من غاياتها

تعتنقُ المكارمَ

وتتحصنُ بالجلالْ

تعليق عبر الفيس بوك