شذرات

أمل السعيدية
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحكم على الآخرين من الخارج، ولا أن نصنّفهم، ولا يمكننا ادعاء معرفتهم أيضاً، إذا كنا نحن أنفسنا نؤمن أنّ ما من أحد يفهمنا كلياً فكيف يمكن أن ندّعي فهم الآخرين! إذا كان من شيء يمكننا فعله بصدد هذا، هو الإقرار بعدم قدرتنا على النفاذ إلى حيوات الناس من حولنا، لذا لا يمكن تجريم أحد ولا إقصاء أحد. أعتقد أن مشكلة التطرف قائمة في الأساس على عدم إدراك الفرد فينا لتعدده هو نفسه، فالواحد منا قد يبدو متناقضاً في بعض تصرفاته إلا أنه لا يقر بذلك وهذا الإقرار يساعد الواحد منا على أن يفهم أنه هو نفسه عبارة عن ناس متعددين، لذلك يكون أي أحد من الناس في المقابل شخصاً متعدداً أيضاً مما يعني أننا عندما نتعامل معه لا نرى إلا ما ظهر لنا من الشخصيات الكثيرة التي يتمتع بها. تقول الشاعرة التي أحب، إيمان مرسال في مجموعتها الشعرية (حتى نتخلى عن البيوت):
"لا أظن أنك من زجاج النافذة، يمكن أن تدرك هؤلاء الذين تمزقوا من قبل
لا شيء يميّزهم في الحقيقة!
أقصد، ربما كلٌ منهم لا يشبه إلا نفسه
مثل ملصقات مختومة تم نزعها من أغلفة المظاريف وانتهت عند هواة جمع الطوابع".
ما الفائدة لو أطلقنا الأحلام، لطالما تعجبت من بعض المعايير التي يستخدمها الناس من حولي للحكم على صلاح الآخرين من فسادهم.
* * * *
شاهدت الأسبوع الفائت مسلسل (شمال و جنوب) (north & south) وهو من إنتاج bbc. المسلسل مقتبس عن الرواية الكلاسيكية التي تحمل ذات الاسم للإنجليزية اليزابيث غاسكل. المسلسل يقع في ٤ حلقات، تستغرق كل حلقة منه ساعة كاملة، لجاذبيته الشديدة انهيته في جلسة واحدة وقلما يحدث هذا معي، وجدتني عند إنهاء كل حلقة أشاهد الحلقة التالية، ولأيام بقي إيقاع المسلسل رابضاً في داخلي، فهو يحكي عن قصة تحدث في منتصف القرن التاسع العشر، وتبدأ القصة عندما يقرر قس في أحد الأرياف مغادرة الريف بسبب توكيل موظف جديد طلب منه تبني خطاب ديني لم يعد هذا القس يؤمن به، لذلك وجد أن مغادرة الريف والبحث عن وظيفة في المدينة مسألة ضمير، تواجه العائلة فور انتقالها من جو الأرياف الساكن إلى صخب المدن إبّان الثورة الصناعية فيها مشاكل عصيبة، فالأم تمرض ويوهن جسدها والابنة تصارع من أجل الحفاظ على مبادئها.
يطرح المسلسل الصراع بين الريف والمدينة من خلال شخصيتين هما: مارغريت هايل ابنة القس القادمة من الريف، وجون ثورنتن رجل الأعمال وصاحب مصنع القطن في المدينة. عندما تصل مارغريت إلى المدينة تبدأ بالبحث عن شقة مع والديها، وتستمع لحوار يدخلنا إلى طبيعة السكان في المدن، الذين يمتازون بالجشع والغش، وفي أثناء تنقلها في المدينة تتعرف مارغريب على ثورنتون صاحب المصنع الذي يقوم بضرب وطرد أحد عماله بطريقة بشعة من المصنع، وتحاول هي جاهدة أن توقف ثورنتون لكنها تعجز عن هذا. وتستطيع مارغريت أثناء وجودها في المدينة أن تعقد صداقات مع العمال، ونتعرف من خلال هذا على حياتهم الصعبة وموقفهم من السلطة. حتى إن أقرب صديقاتها كانت مصابة بمرض في الرئة نتيجة لعملها المبكر في المصانع. ثورنتون سيصبح تلميذاً لوالد مارغريت حيث يتدارس معه أمور الفلسفة والحياة، وهنا يحدث اللقاء الأبرز بين مارغريت وثورنتون.
إننا نشهد بين مارغريت وثورنتون صراعات حادة حول وجهة نظر كل منهما عن الحياة في المدينة التي تمتاز بالعمل في المصانع، فيما تصر مارغريت على نقاء الريف وطيبة أهله. ليس هذا فحسب، هنالك حوارات دافئة في المسلسل عن الصلات الاجتماعية، عن المجتمع الرأسمالي، مساعدة الفقراء، تبني الأيتام، النقابات العمالية ودورها، الثقافة وأهميتها، وبلا شك للحب نصيب كبير في هذا المسلسل. في الحقيقة أكثر ما لفت انتباهي فيه هو ذلك الجدل القائم بين مارغريت وثورنتن، فمرة أجدني اتفق مع مارغريت ومرة أخرى أجدني أصطف مع المدينة وموقف ثورنتون.

تعليق عبر الفيس بوك