المهاجر إلى الخطوة الأولى

معاوية الرواحي

الإهداء: إلى الشاعر الوليد الصوافي

كنت في زيارة إلى حرم جماعة الخليل للأدب في إحدى الجلسات العامة، وكان موضوع الجلسة عن العدميّة الأوروبيّة. قبلها هيأت عقلي لخوض نقاش طويل عن أميل سيوران وكنت مستعدا لشن هجمات عديدة عليه لأنه يمثل لي قمة التفلت من الحتمية الروحانية والأخلاقية للإنسان. كان الفص الأمامي من دماغي ساخنا. لكن الذي حدث أنه وزّعتْ على الحضور ورقة بها قصيدة معنونة بــ: ثالث أغنيات الهجرة.

قرأت القصيدة مرتين وبعدها بدأ عقلي يذهب إلى مكانٍ أبعد من الجلسة، ومن العدمية، ومن أميل سيوران الذي لم أجد معجباً فيه إلا وكنت أضعه تلقائيا في خانة الذين لا يمكن الثقة بهم أو حتى ائتمانهم على شيء بسيط من الثقة، كنت في ذلك المزاج الحربي حتى فوجئت بكأسٍ من الماء البارد يزيل تلك الحرارة في الفص الأمامي، ولأبدأ مع أبيات قصيدة الوليد الصوافي التي جعلتني أكتب هذا المقال.

وجاءَ من قريةٍ صفّت ضفائرها

للعابرين، وألقتْ تحتها الحُجُبا

مُحمّلا بانكسارات السماء، به

شيءٌ من النار، تخبو كلما اغتربا

كما جاء كل شاعر من عُمان حمّلت القرية الوليد الصوافي أسئلته الأولى في بقجته التي حملها إلى مسقط. وكما وصف نفسه المحملة بانكسارات السماء جاء هُنا ليتكشف أنه يصنع غربة صغيرةً خاصّة به، غربة تليق بالشعراء الذين تلبس بهم الشعر وأمسك بتلابيبهم.

تخبو نارُه، لأنه يغترب بعيدا عن أسئلته الأولى، ومن هناك تأتي بداياتُ الشعراء، من الخيط الخفي الذي يحول النار التي تحترق إلى دفء يمد لغته بالضوء وبالحياة، ويبعده عن الحريق الذي قد يأتي على روحه بقصيدة واحدة، وبهذه البداية العذبة استطاعت القصيدة أن تخلب لبي، وأن تلفتني وأن تجعلني أؤمن أنني أمام قصيدة جميلة.

وكالنبيين مشكاةٌ عباءتهُ

وكفّه ترمق الطين الذي صُلبا

خطاه للبيد مذ سالت قصائده

لعل في البيد ما يُشجي بما كتبا

مرةً أخرى وبشكل محكم للغاية، وبعد أن تجاوز الأسئلة الأولى أو (الشكوك) كما ستتحول كما يبدو لاحقا. تدخل القصيدة في وصفه دون أن يدخل هو في وصف القصيدة، ولعمري هذا ذكاء منه، ذكاء من شاعرٍ شابٍّ يدرس الكلمة باحترافٍ جميل. كالنبيين، كما يفعل الشعراء دائما عندما يقارنون المنطقي بالمستحيل، يراقب الصليب الذي لم يأت به أحد، ويراقب الحفلة كاملة، التي سيكون هو بطلها بالمسامير على جسده وبالأوتاد في كبده، ويصرخ في وجه العالم أنّه مهاجر إلى الصحراء، وأنّه لا يعبأ بشيء إلا بغربته التي يخيطها ببطء شديد.

مهاجرٌ يتبع الـ (لا أين)، يؤنسه

صوت من الغيب: أن لا خوف يا نُجَبا

يبوح للرمل عن تفاح قريته

وكيف أنّ القوافي تُطعَمُ اللهبا

وعن عصاهُ التي ألقى وما فَعَلتْ

وعن أبيه الذي في ظلّهِ نُصِبا

وعن حبيبٍ، تولّى قلبه غُصُنا

دعاه أن يُسْرِجَنْ نور المدى، فأبى

ومن هنا تبدأ المكوّنات بالخروج، قصيدة تصف صاحبها وربما جيله كاملا بعمق ودقة. اللا أين، والبوصلة التي تدور ولا تتوقف لأن صاحبها يعبث بالمغناطيس حولها. وصوت اللامرئي الكوني وهو يأمره في داخل تلافيف روحه، الصوت الذي قد يشكره أو ينكره، يتعبه أو يهرب منه لا فرق فالقصيدة قدرٌ جميل نهايته الحب، وبدايته التعب. عن الشاعرِ الذي امتلأ بالحب في أغلالِ الحياة الأولى، وابتلى بالذاكرة بعيدا عنها، وندم البداية التي كانت أضعف من المشاعرِ، ندم الحتمية التي جعلتنا نعرف الحياة ونحن أطفال في الحروف، ونعرف الحروف بعدما تجعلنا الحياة أطفالا. وما دمنا نتحدث عن شاعر عُماني، فلا بد من أبٍ ومن عصى ومن ترحال، قبل أن تحملنا القصيدة المختصرة بعمق فني جميل إلى الحبيب الأول، الذي كان غصنا رفض أن يسرج نور المدى وأبى. ما أجملَ هذا الاختصار البديع.

مهاجرٌ، زادُه رَيبٌ و حنجرةٌ

فهل سيدرك أن المنتهى احتجبا!

وهل سيفتح يومًا باب قريته

أم سوف يُحكى: نبيٌ مات مغتربا!

وهكذا يختم الوليد القصيدة كما يليق بها. في أسئلة مفتوحة النهاية لا تعلم القصيدة إجابةً لها ولا يعلم هو إجابة لها، مهاجر وزاده الشك والصوت، أو كما يقولها هو في مجازه الخاص، ريب وحنجرة. هنا نرى كيف حاصرت الأسئلة نهايتها بدلا من البدايات الحتمية للذاكرة وكيف فتح الشعر أبواب الأمل التي يخلو منها الماضي الأليم، يسأل الشاعر كل إنسان يخطب الشعر ود روحه، ويسأل نفسه، ويسأل العالم والحياة ألف سؤال في بيتين اثنين، يصرخ بصوت خفيض: ماذا سأكون؟؟ وماذا سيكون؟؟ بعدما قال لنا ماذا كان.

قبل أن أغادر الجلسة طلبت منه أن يوقع لي على القصيدة وبدا مستغربا لهذا الطلب. قلت له سأذكرك بها بعد سنوات عندما تخرج من المستطيل الأول إلى الساحة الأكبر.

قلت له في رسالة لاحقة:

"اجعل الغربة وطنا" لا بأس.. القليل من التعب في هذه الحياة بعيدا عن المناطق الآمنة، ولكن لا تجعل وطنك غربة.. الغربة لن تكون وطنا دائما.. أمّا الوطن لو صار غربة.. فستجد نفسك بلا تراب يأويك.. وكن بخير أيها الضلّيل .

ومن اللاأين إلى الأين تمدنا جماعة الخليل للأدب بأقلامٍ عُمانية قادمة، فشكرا لها.. شكراً لها ألف مرة.

تعليق عبر الفيس بوك