وداعا زهاء حديد ملكة المنحنيات والإنسيابية

علي بن جعفر اللواتي

"من بين المهندسين المعماريين الذين برزوا خلال العقود القليلة الماضية، لم يكن لأي أحد منهم تأثير أكبر مما أحدثته".. بهذه العبارة نعى المعماري البريطاني ريتشارد روجرز الراحلة زهاء حديد المهندسة المعمارية العراقية الأكثر الهامًا في عصرنا الحاضر من خلال تصاميمها. خسارة كبيرة وحزن عميق لحق بعالم المعمار والبناء بوفاة هذه المرأة الملهمة عن عمر يناهز الـ 65 عاما في مدينة ميامي الأمريكية إثر أزمة قلبية ألمت بها. ولدت زهاء حديد في العاصمة العراقية بغداد عام 1950م حيث أنهت بها دراستها الثانوية ثمّ درست الرياضيّات بالجامعة الأمريكيّة في العاصمة اللبنانية بيروت مع ولعها وشغفها بالعمارة فدعمها والدها محمد حديد وزير المالية العراقي الأسبق للالتحاق بالجمعيّة المعماريّة في العاصمة البريطانية لندن، فعقدت العزم وبذلت المجهود لتلتحق بعد تخرّجهّا بالعمل في السلك الأكاديمي بكل حيوية إلى جانب تأسيسها لمكتبها الخاص في العام 1978م. تقول زهاء حديد: "إن الأساس في الهندسة المعمارية هو العمل الدؤوب والجاد والكدّ والمثابرة للاستمرار في هذه المهنة وتحقيق النجاح بها" فكان الاجتهاد خلف مسيرتها المهنية المليئة بالنجاح. نُصبّت زهاء حديد أستاذًا فخريًا مشاركا في عدد من الجامعات المرموقة مثل هارفرد وشيكاغووأوهايووكولومبيا وهامبورغ،كما أنّ تصاميمها الرائعة انتشرت في مختلف البقاع بين نيويورك وطوكيو وسنغافوره وميونخ وروما وبرشلونة وطهران ودبي وأبوظبي وغيرها من المدن والبلدان لتصبح المهندسة المعمارية الأكثر شهرة قاطبة في الوقت الحاضر بأيقوناتها التي تشكّل معالم هذه المدن.

لربما لم تتح للكثيرين الفرصة لاكتشاف شخصيتها الغامضة التي غالبا ما كانت تتشح بالسواد في ملبسها. هذه الشخصية التي أثارت فضول المعماريين لمعرفتها وسبر أغوارها، إلا أنّه ومن المؤكد أن جلّهم إن لم يكن كلّهم مرّوا على مبنىً من تصميمها؛ فأعمالها تحمل بصمةً مختلفة عن المقاييس المعروفة والمواصفات المعهودة، وذات بُعد فلسفي عميق وجديد جعلها مرمى للنقّاد في أوروبا والشرق الأوسط. واجهت زهاء الحملات التي شُنّت عليها بسبب تصاميمها الحديثة جدًا و الثورية، ولكونها امرأة أيضا، لكنّها ناضلت وانتصرت وارتقت إلى القمة فحازت الانتباه الدولي بكونها أول امرأة تفوز بجائزة بريتزكر، الجائزة الأهم والأكبر في مجال العمارةفي العالم. وكذلك تُوّجت زهاء بالميدالية الذهبية الملكية في هذا العام من الجمعية الملكية البريطانية للمعماريين (ريبا) والتي تُمنح تقديراً للأعمالالمعمارية المميزة في الحياة العملية، وكانت أيضا أول امرأة تُمنح أعلى وسام شرفي في المملكة المتحدة للمهندسين المعماريين في العام الماضي، وكرمتّها جلالة الملكة اليزابيث الثانية بمنحها لقب السيدة (ليدي) في العام 2012م إلى جانب العديد من الأوسمة الفخرية والجوائز والألقاب من مختلف مؤسسات المجتمع المدني. ويُحسب لزهاء حديد ضمن أبرز إنجازاتها نضالها لتمكين المرأة في مجال الهندسة المعمارية التي اقتصرت دراستها على الذكور فقط إلى عقود قريبة، لم تناضل زهاء لأجل تمكين المرأة في هذا العالم وحقها في العمل فقط وإنما تغيير النظرة إلى ما يمكن للمرأة أن تنجزه في صناعة يكاد يسيطر عليها الذكور، فرحيلها ليس خسارة للمعمار وحسب وإنما للمرأة كذلك.

لقد أحدثت زهاء حديد فرقا كبيرا في تاريخ الهندسة المعمارية وسيخلّد اسمها كأحد الفاعلين والمؤثرين في تاريخ الفن الحديث. في لقاء مرئي لها في مطلع الألفية مع إحدى الفضائيات اللبنانية ذكرت زهاء أن الحداثة كان يمكن تلمُّسها في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. وكذلك في الخمسينيات والستينيات ولكن ذلك تم التخلي عنه في السبعينيات والثمانينيات وتوقفت الحداثة عن النمو في نظرها. فكانت ترغب أن تغيّر من الواقع فرمت عرض الحائط بكل التقنيات المعروفة وأعادت النظر في كافة التفاصيل والمواصفات وقامت بغربلة المقاييس السائدة وتفكيكها لأجل مفهوم جديد يُطبّق من خلال التصاميم المعمارية متبنية في ذلك رؤى المدرسة التفكيكية. كانت الثورة الصناعية في أوروبا تتبنى فكرة المقاييس الموّحدة والتكرار في الإنتاج مما جعل المنتجات الصناعية والمباني متطابقة في أشكالها إلا أن زهاء قدمت تصاميم حديثة وثورية يتم تشييدها حسب الطلب والحاجة، و بدلا من هدم المبنى القديم يتم تشييد الجديد بجواره ومن هنا تأتي فكرة التصادم بينهما وهدم المقاييس القديمة فسميت بملكة المدرسة التفكيكية وهدم المقاييس.

وانتقد الكثيرون موجة الحداثة ووصفوها بالمبالغ فيها. وانتقد آخرون بُعد تصاميمها عن الهندسة الإسلامية الشرقية كونها مهندسة من بيئة عربية مسلمة أصلا رغم إقامتها في انجلترا، وعلّقت زهاء حديد في معرض الرد أن هناك العديد من المعماريين ممن تأثروا بالمعمار الاسلامي شكلا فقط، إلا أنها شخصيا ليست متأثرة بذات القدر وكذلك هي لم تنبذ المعمار الإسلامي الشرقي من تصاميمها نهائيا. فهي لا تقوم بالاستعارة المباشرة من فن الخط العربي والزخرفي كما هو الحال لدى أغلب المهندسين ولكنها تستعير نفس سلاسة الخط وانحناءاته الإنسيباية وبالتالي فإن تأثرها ليس بنفس الشكل الفلكلوري الذي يُحتفى به في العديد من البلدان الاسلامية. واعتبرت زهاء حديد بمنحنياتها مصممة بارعة قدمت للعمارة العجائب التي لا تصّدق.كان يطلق عليها اسم"ملكة المنحنيات والانسيابية".

كانت زهاء تنظر للهندسة المعمارية كمرآة عاكسة للعصر الذي نعيش فيه ومقياسا للتمدن الذي نعايشه، والتصاميم الإسلامية الفلكلورية لا تعكس ذلك وإنما تعكس نمط العيش قبل ألف عام لذلك فهي تدعو ألا يكون الإرث مدعاة للجمود وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال عدم المحافظة على الإرث إذا ما كان هناك هدف وراءه. أمّا الاحتفاء الشكلي بالإرث القديم كتذكار دون هدف فهو ليس سمة في تصاميم زهاء حديد فلا يمكن للعالم الإسلامي أن يتقدم بالتشبّث بالقديم في عالم يتطوّر بتسارع؛ إذ لا يمكن للمعماري أن يصمم ناطحات سحاب بقناطر إسلامية شكلا فالإرث ليس مجرد ديكور وليس كل قديم مهم، ولكن يمكن الاستفادة من الإرث وظيفيا فالإنجاز المعماري يكمن في ما يحسّن طريقة عيش الإنسان ونمط الحياة في المدن والدول. ومن الهندسة المعماريّة اقتحمت زها حديد عالم تصميم الأثاث والأزياء ولها معارض عالمية في عدد من الدول ومؤخرا كان لها جناح خاص مع مصمم أزياء عالمي في الدنمارك. ويبقى أننا مهما التقينا مع تصاميمها أم اختلفنا وموقفنا النقدي من أعمالها فلا يمكن أن يراودنا أدنى شك كونها مبدعة ورائعة ومثيرة للتفكير المعماري. زهاء حديد هي أحد أكبر المعماريين في عصرنا قد فقدنا موهبة كبيرة وملهمة ووفاتها تعدّ خسارة للإبداع لكنها ستعيش للأبد حاضرة بروحها في المباني التي صممتها وفي الجمال الذي تورثه اليوم لأجيال تستلهم منها الكثير. ستبقى حاضرة في تصاميم المعماريين الذين سيحذون بحذوها. شكرا لك زها حديد لجعلك هذا العالم أكثر جمالاً.. ولروحك السلام.

* مهندس معماري

lawati.oman@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك