من هؤلاء نبدأ

معاوية الرَّواحي

كنتُ قد كتبت مقالاً قبل هذا المقال. قطعة نثرية طويلة من التحليل الزائد عن الحد عن وضع جمعية الكتاب والأدباء، وعن الفترة الأخيرة التي عاشتها الجمعية. كلام طويل للغاية عن القوائم المترشحة، وعن ما أسميته "مبنى الجمعية العمانية للكتاب والأدباء". ولكن شاءت الظروف أن يتغير يوم نشر المقال ليتحول من الأربعاء إلى الخميس، وبالتالي لن يكون من اللائق فنيا أن أكتب عن يوم الانتخابات بعد نهايته، هكذا فكرتُ وقتها أنّه لم يكن من اللائق فنيا كتابة ذلك المقال حتى قرأته اليوم وأنا أعيد صياغته لأجد أن فكرة جديدة عن اللياقة الفنية قد طرأت على ذهني.

لا يوجد كاتب في عُمان إلا ويعرف جميع إشكاليات الثقافة، لا سيما الكتاب من الجيل السابق على فورة الإنترنت التي صنعت ظواهر كتابية رائعة خرج منها شباب مبدعون من رحم حسابات اليوم الواحد والمنشور الواحد والتغريدة الواحدة إلى فضاء الثقافة الملتزم والرزين. قلت لنفسي وأنا أعيد قراءة ذلك المقال الطويل أن اللياقة الفنية تستدعي شيئا آخر، لا تستدعي مقالا عن جمعية الكتاب والأدباء، وإنما رسالة لها، رسالة من كاتب ينتمي بكل فخر إلى هذه الجمعية.

ينقسمُ العمل الثقافي في عُمان إلى قسمين.. الأول: المؤسسي التابع لمؤسسات حكومية أو إعلامية، والقسم الآخر: جمعية الكتاب والأدباء. بعد أن بسقت نخلة جمعية الكتاب والأدباء وأصبحت بيتا يأوي إليه المثقفون، بدأت لدينا حكاية جديدة في العمل الثقافي في عمان ونافذة أخرى من النوافذ الجميلة التي بدأ الكاتب العُماني فيها بالشعور بشيء من الاستحقاق والأهم "الانتماء" إلى مكانٍ يجتمع فيه المثقفون رغم اختلافاتهم ويتفقون على شيء واحد هو، الانتماء إلى هذه الجمعية.

وفي المقال السابق الذي كان يُحلل قضية الانتخابات، كنت أكتب مناشدة شخصية إلى القائمة الفائزة أن تضع أول أولوياتها كسب القائمة الأخرى إلى صفها وصناعة جدول توافقي بين القائمتين، كنت أعتقد أن اللياقة الفنية ستجعل من المقال الأنسب لذلك اليوم، وكذلك الأنسب لعودتي إلى كتابة مقالي الأسبوعي في جريدة "الرُّؤية"، ولكن كل هذا الحديث عن تلكم اللياقة الفنية تبدد عندما دعاني صديق عتيد إلى زيارة جلسةٍ لطلاب الجامعة عن "العدمية".

أدهشني ما رأيت، وأدهشني ما وجدت، وبلا وعي وجدت نفسي أقارن بين الزمانين. الزمان الذي كنت فيه طالبا في جامعة السلطان قابوس قبل 12 سنة، في عصر كانت الوسائط التقنية فيه غامضة وبعيدة إلى هذا العصر الجديد، وإلى هذا الجيل الجديد، هناكَ وبعد ساعةٍ جميلة مع تلك العقول الرائعة أدركت التعريف الجديد لمفهوم اللياقة الفنية الذي سأحافظ عليه بإذن الله في مقالاتي معكم في "الرؤية".. الأمل!

هناك مبنى معنوي لجمعية الكتاب والأدباء، وهذا المبنى ليس فقط المبنى المكون من الأحجار، وإنما المبنى المكون من الأفكار. تشاء نواميس الحياة أن يختلف المثقفون دائما وأن يتخاصموا، ولكنها تشاء أيضا أن يجتمعوا وأن يتفقوا في أي شيء يمثل مصلحة جميلة للوطن، أو للإنسان، أو للحياة. يختلف المثقفون في مشاربهم وفي أهوائهم ولكنهم يتفقون في دعم بعضهم البعض، ويتفقون على عدم الاتفاق في أشياء كثيرة، الأهم أن الركب يسير وأن السفينة لا تغرق بركابها.

اختلف المشهد الآن، وكأنني أتذكر ذلك اليوم المجيد الذي نشرت فيه أول قصيدة لي في "شرفات" بعد عملية فلترة مررتُ بها كما يمر أي كاتب شاب، فلترة من قبل الجيل السابق للتأكد من جودة ما هو قادم من قبل الجيل الجديد. ما زال هذا النظام قائما رمزيا، ولكن الوسائط اختلفت، وصرنا نرى ظواهر جميلة تستدعي الحفاظ عليها والإبقاء عليها منتجة وصافية وخالية من خوف أسئلة الأين والمتى المبكرة جدا.

خرجتُ من تلك الجلسة الطلابية في الجامعة بشعور كبير بالمسؤولية تجاه هذا الجيل الشاب، وهي ليست مسؤولية الوصاية أو الأستاذية، وإنما مسؤولية العناية المستحقة لهم. الوجوه نفسها، والعيون الزائغة نفسها، ولكن الأرواح الجميلة قادمة. كنت في مقالي السابق الذي أتراجع الآن عن فهمي للياقته الفنية أطالب باستماتة باتحاد المشهد الثقافي..إلخ، لكنني الآن لا أقول ذلك.

أقول إنَّ السنوات السابقة قد قدمت لنا عقولا جميلة بدأت وشقت دربها الخاص في مسار الكتابة، ولم تقع في فخاخ المحيط الإلكتروني المعتادة، عقول استطاعت بفهمها الخاص أن تشق طريقها وأن تؤسس قارئا واعيا، بعضها عبر الجسر ووصل إلى مبنى الجمعية ليطفئ هاتفه المحمول و"يصافح" أصدقاء القلم الذين عاشوا معه في حسابه الافتراضي ربما لسنوات أو شهور طويلة.

هذه رسالة شكر، إلى جماعة الخليل للأدب، الجماعة التي خرجت من رحمها، كما خرج منها كثيرون، ورسالة حب إلى جمعية الكتاب والأدباء أن تجعل هؤلاء أولوية مطلقة، أن تحتويهم وأن تقول لهم أنه حتى لو حققت الوسائط هذه عوامل شتى من الوصول للقارئ إلا أن الثقافة دائما عمل، وللكتاب دائما في كل مكان "مبنى" معنوي يلتقون فيه، يطفئون فيه الهاتف المحمول ويسمعون ما يقال ويغادرون. هُنا يبدأ العمل الأهم في رأيي، في قراءة المشهد الثقافي مجددا، في شعراء الجيل القادم الذين انفتحت أمامهم أبواب المعرفة في هواتفهم ونحن الذين لم نصدق أنفسنا عندما أصبحت الهواتف تتقبل الصور الملونة.

كنتُ أعتقد أنَّ اللياقة الفنية تقتضي أن نبدأ بنداء آخر، ولكنني اليوم، وأنا أكتب المقال ولا أعرف القائمة الفائزة، أغير ندائي لأقول، فلنبدأ من هؤلاء. من هناك سيولد المشهد الثقافي الجديد لتواصل الشعلة إضاءتها التي لم تنطفئ رغم كل شيء.

تعليق عبر الفيس بوك