شيءٌ من ماء الحب

سلمى اللواتيَّة

ثلاثة مواقف مختلفة خلال يومين أشعلت فتيل موضوع متقادم متجدد، الأول عيد الأم في الواحد والعشرين من مارس، وما يصاحبه من قيل البِدعة وقال التكريم، ثم حديثي عن الأوبرا وروعة عرض الناي السحري الذي قوبل بردات فعل كلها مقبولة ومحترمة وإن اختلفت مع بعضها، وأخيرا الصورة الأجمل في برنامج "بيت القصيد" والذي يقدمه المذيع المتألق زاهي وهبي على قناة الميادين؛ حيث حلقته التي مرت يوم الثلاثاء بتاريخ الثاني والعشرين من مارس، والتي استضاف فيها الثنائي المنشد الصوفي والرادود الحسيني الشيخ أحمد حاويلي، وعازف العود الفنان زياد سحاب الذي يوصف بـ(الملحد).

وجدت نفسي في مثلث الأضلاع الثلاثة أتساءل عن القبول والرفض، والبدعة والمباح، ثم الإبداع والحب! في الحقيقة أجيد الحديث عن المشتركات أكثر مما أعرف عنه في عالم الاختلاف؛ لذا فإني أبحث عن المشترك بيني وبين كل الإنسانية في سر الوجود ووسيلته، ولا يرجع لي الصدى بأعذب من نشيد الرَّحِم في ساحة الإنسانية الكبرى فقد يولد إنسان يتيم الأب، ولكن لا يولد مخلوق يتيم الأم أبدا في نظري؛ إذ طالما سكنت النطفة التي خرجت إنسانا كاملا في قلب الرّحم فقد ثملت ولو في بعض لحظات من كأس الحنان اللامتناهي من الأم، ومن ثم فمن حقنا الإنساني الكبير أن نتفق على أيام تجمعنا حول هذه العبق الأموي الخالد، وليحتفل بعدها كلٌّ منا بما تمليه عليه قيمه وقناعاته، ولعل الشيء بالشيء يذكر أني وجدت من كانت ترفض عيد الأم حتى إذا صارت أمَّا قبل سنتين طوت صفحة هذا الموضوع هذا العام في مجموعة المحادثة، وهي عندي معذورة على أساس قاعدة أن الفهم الناقص يوصل لنتيجة ناقصة! وأما حديث البدعة والمباح فإني أدعه للمختصين في تفصيله، لكنني في مجمله أقول إنَّ البدعة تكون في إضافة للدين وتشريعاته، وليس منا من يقول إن عيد الأم تشريع سماوي نزلت به الشريعة المحمدية الغراء، أو إحدى الشرائع السماوية، لا بل كل ما في الأمر أنّ مجتمع اليوم قرر أن يكون لبعض مشتركاته العظمى أيام يستأنس بها ويؤنس الآخرين!.. ولعلّي أضمّن الكلام بحديث للكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي حول العيد؛ إذ يقول: "وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف توجّه بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت؛ فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لتخرج عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيدا ماليا اقتصاديا... وتخترع للصناعة عيدها، وتوجد للعلم عيده.... وبالجملة تنشء لنفسها أياما تعمل عمل القوّاد العسكريين في قيادة الشعب، يقوده كل يوم منها إلى معنى من معاني النصر". وهي وجهة نظر متقدمة جدا للارتقاء الاجتماعي والفكري للمجتمعات، جديرة بالفهم والاستفادة.

ثم دار الأوبرا، وفن الأوبرا وهو موضوع من الحساسية التي تجعل التعرض له من السهل الممتنع؛ لذا فسأرتفع عن المسمى الخاص نحو العموم الذي ينبغي أن يمتد إليه أفُق تفكيرنا في هذه الحياة التي تختلط فيها المعطيات بين ما نقبله ونرفضه تبعا لخلفياتنا الدينية الثقافية والاجتماعية، وعليه فلنأخذ من كل علمٍ بالطرف المَرضي لدينا كي لا نخسر الإبداع المكنون في كل أمر، ومرة أخرى بما يتناسب معنا، وليكن رفضنا حين نرفض رفضنا حكيما يقيس الفوائد ويصقلها بمائه، ثم فلنمرن عقولنا على قبول المختلف الذي يلاحقنا أيّ شطرٍ ولّينا! وغريب فعلا أمرنا حين نقبل بتنوع تغريد العصافير ونأنس بألوان الزهر، بل ننوِّع حتى في اختيار الأطعمة والألبسة ثم نبحث عن نسخنا المتكررة حين نتعامل مع البشر الذي نختلف معهم في كل شيء كسنّة خلقٍ جعلها الله جلّ وعلا، حتى إننا لا نتشابه في بصمة الأصابع وكأن اليد التي نمدها لبعضنا عربون أخوة وسلام هي ذاتها التي نؤكد من خلالها أننا مختلفان ممتزجان ذائبان في الذات الإنسانية من خلال مختلفنا الأول الذي نتلامس به! أما أنا فقد وجدت في الأوبرا ما قد ينطلق به إبداعنا لنبتكر ما يناسبنا ويتوافق مع مبادئنا، وقد يرى الآخرون ونرى جميعا الأفضل دوما، ولكن فقط حين لا نقف خارج الحدود!

أمَّا بيت القصيد، فهو حقا "بيت القصيد" في هذا المقال المشترك في تنوعه! ملحد ومرتل قصائد حسيينة يجمعهما عشق الوجود ليكونا تجليا ناصعا للحب الإلهي على المسرح! ومهما اتفقنا أو اختلفنا في التوجه الفني لهما؛ فالذي شدّني حقا هو قدرتهما على إيجاد المشتركات التي تخلق منهما ثنائيا متميزا على الساحة الفنية العربية في زمن قطع الرؤوس وصلب الأجساد، كيف يعزف الملحد للمؤمن آيات العشق الصوفي ويستشعرها على أنغام عوده، ليلحنها ويؤلف منها قيثارة جمال أبدية؟! بل الأعجب من هذا كيف أنهما يتصادقان ويتحاوران في المشاعر والمناغم التي توصل العمل الفني إلى درجة الإبهار! إن هكذا مرافقة تحتاج لتوحّدٍ روحيٍّ عميق -ولعل أهل الفن يعوون ما أقول- كلاهما يقول إنَّ العشقَ جمع بينهما، مبدأ الحب الذي خلقه الله ليكون الماء الذي يذيب أكوام الجليد التي تخلقها يوميات حياتنا ومواقفها المتتالية وحوادثها ونوائبها. وإني أتساءل عن الطاقة الهائلة التي أودعها الباري جلّت قدرته في المناضلين الثوار بدءا بالأنبياء وانتهاء بالطفل الذي يصارع للخروج من رحم أمه. أتراها طاقة عقلية تخضع لحسابات النعم والّلا، أم هو دوما حب الحياة، وحب البقاء، وحب العطاء؟! إني حقا أراه الحب! نعم إنه الحب الطريق الأقصر للوصول إلى كلِّ النعيم، إنه الحب ماء القلب ورحيق الحياة! ولعلّنا جميعا بحاجة إلى أن نتعلّم ماذا نحب ولماذا وكيف، ثم ماذا لو أصاب الإنهاك قلوبنا! كيف نجدد الحب ونوحّد أنفسنا في انسجام وامتزاج ليكون الحب نحن، ونكون نحن الحب في كل مكونات الحياة وأنحائها كي ننعم بسعادة سرمدية هي سر وجودنا في هذه الحياة.

s.allawati@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك