ثورات على الرَّصيف

سُلطان الخروصي

الثورة مُصطلح كثُر به الهرج والمرج في الآونة الأخيرة، وكثير من القيادات الدينية والسياسية تقدمه كريشة للشعوب في سبيل صناعة التاريخ القومي دون الاكتراث بما قاله ذات يوم أشهر زعيم فرنسي نابليون بونابرت من أن: "التاريخ مجموعة من الأكاذيب متفق عليها، يشترك في حياكته الصالح والزنديق، ورجل الدين وماكر السياسة، والأغنياء والمعدمين، والعقلاء والمجانين، والأحرار والعبيد كل وحسب غايته"، ودون الالتفات إلى ما قاله جمال الدين الأفغاني: "لن تنبعث شرارة الإصلاح الحقيقي في وسط الظلام الحالك إلا إذا تعلمت الشعوب وعرفت حقوقها، ودافعت عنها بالثورة القائمة على العلم والمعرفة لا الفوضى والسلاح"، ويبدو أنَّ المشهد العربي أضحى أكثر تعقيدا في ظل البحث عن المربع الذي تطؤه أقدامنا لاستيعاب مفهوم ودلالات "ثورة الشعوب"، فإن لم تجانبنا التوقعات فنحن بصدد صناعة مصطلح (نووي) ثوري يقودنا للتحرر والإبداع وجودة الإنتاج من خلال نماذج الثورات التي نعيشها الآن! ولربما سنقود العالم الفوضوي نحو النظام والألفة وخلق عقيدة العلم والعمل واحترام الذات الإنسانية في كل المحافل بعيدا عن التقديس السمج واسترقاق العقول!

يُقال في العُرف السياسي إنَّ الثورة المنظَّمة القائمة على رفع الظلم واحترام الحياة وتقرير المصير، لا يُمكن أن يقف أمامها أي جبروت؛ فهي مبنية على عزيمة التحرر، وثقة الحياة، وعشق الإبداع والتطور، وهدف نبيل قوامه الحفاظ على قدسية الإنسان والوطن مهما اختلفت المبادئ والأفكار والمعتقدات والأعراف، ولا يمكن قياس مصداقية ونجاح ثورات البسطاء والمعدمين والمضطهدين إلا إذا كانت معالمها بينة بالأهداف والرؤى الأصيلة التي تحقق الصالح العام، ووجود سيناريو بديل للمرحلة الانتقالية سواء كان الظرف مبنيًّا على استجابة الحكومة بالسلم أو بالاصطدام، أضف إلى ذلك ضرورة وجود خط أحمر يحرم الإجرام بمؤسسات الدولة السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية، كما ينبغي المحافظة على سيادة دول الجوار وعدم بناء جسور التحالفات بمنطلق نزعي أو ولائي صرف دون الاحتكام لمصلحة الوطن وحقن دماء الشعوب، ومن الضرورة أن تقرأ كل المؤشرات المتصلة بالثورة من حيث العدة والعتاد والجدول الزمني دون الولوج إلى مستنقع استعراض العضلات والزج بالناس في أتون المغامرات غير المحسوبة فتنتهج بعد الإفلاس سياسة الأرض المحروقة وتغذية البواطن النتنة عبر الشحن المذهبي أو الطائفي والتشظي بالمواقف والمصالح.

... إنَّ المتتبِّع لانطلاقة أول شرارة ما عرف بـ"الربيع العربي" تمثل بصفعة غير محسوبة للبوعزيزي في 2010م الذي أقام الدنيا ولم يقعدها على الآن وما تخللها من أحداث في مصر، والجزائر، واليمن، وسوريا، وليبيا، والسودان، والعراق واللاتي جميعهن تغنين باسم "الثورة". والسؤال الذي يطرح بهدوء شديد: ما هي النتائج حتى اللحظة على الصعيد الوطني والقومي والعالمي؟! لو تتبعنا قليلا بعض الثورات التي غيَّرت وجه التاريخ نجد ثمة ثورات كانت أقل زخما كمًّا وكيفًا من الفوضى التي تحدث في وطننا العربي، وكانت لها أهداف وجدولة زمنية محدد، وكانت تتمتع بتحالفات ليس لها أجندة حمقاء سوى تحقيق الأهداف العليا للثوار، كما كانت تتسم بالانضباط دون العبثية، والتاريخ خير شاهد على نماذج فاعلة كالثورة الإنجليزية (1642م-1660م) والتي انتهت بتحقيق أهدافها السامية عبر القضاء الفعلي والنظري بتفرد الملكية في القبض على مفاصل الدولة، وتمكين البرلمان في صناعة القرارات وإدارة شؤون البلاد، كما نجحت الثورة الفرنسية (1789م-1799م) سياسيا في تحويل البلاد من إقطاعية مطلقة لأشخاص بعينهم إلى جمهورية عادلة، وفصل الدين عن الدولة حتى لا يستغل في تأجيج الطائفية والمذهبية على حساب مصالح الناس وإنجازات الدولة، وفرضت احترام حريات الأفراد والطوائف، وعلى المستوى الاقتصادي تحرر عصب الحياة من سماسرة المال وملاك الأراضي بالدولة وقطع الهبات والامتيازات التي كان ينعم بها كبار المسؤولين بالدولة، واجتماعيا تحققت العدالة وسنت قوانين إجبار الجميع على التعليم وتطويره وفق إستراتيجية وطنية محددة ومدروسة.

وفي الساحة العربية، نجد أن الثورة العرابية (1881م-1882م) بقيادة أحمد عرابي على الرغم من أنها اندلعت في ظروف قاسية كانت تعاني فيها مصر تدهورا اقتصاديا، وانتهاكات لسيادتها السياسية من الخارج وعلى رأسهم الإنجليز، فقد كانت مقاصدها وطنية صرفة للذود على حياض الوطن تقوم على المطالبة برفع عدد أفراد الجيش الوطني إلى 18000، وتشكيل مجلس النواب على النسق الأوروبي الذي يحدد اختصاصات ومسؤوليات أركان الدولة، إلا أن أسباب فشل ثورة عرابي تشابهت إلى حد كبير بأسباب فشل ثورات ما عرف بالربيع العربي في وقتنا الحالي؛ فمن أسباب فشل الثورة العرابية أن الرئيس المصري آنذاك "الخديوي توفيق" كان يخشى على كرسيه أكثر من مصلحة وطنه فأدخل الإنجليز في كل مفاصل الدولة للحفاظ على عرشه بما فيها المؤسسات العسكرية الحساسة، وذات المشهد يتكرر في بعض دول العرب من خلال الزج بشركات الحروب وسماسرة الموت ليجعلوا الأرض قاعا صفصفا في سبيل عرش الخلود وإن انتهجت سياسة الأرض المحروقة، ومن أسباب فشل الثورة العرابية أن صاحب شركة قناة السويس رفض ردم جزء منها بحجة أنها قناة محايدة لا يمكن للإنجليز المرور منها لقمع الثوار، لكنهم مروا وعاثوا بالبلاد والعباد الفساد وكم هم الجيران الذي يقسمون ليل نهار بأنهم ضد الاحتلال والتدخلات الخارجية لينجلي الأمر بعد حين بأن الأجنبي يحلق من مطاراتهم وقواعدهم العسكرية بل ويقدم لهم الدعم اللوجستي ممن يحسبون إخوة في الظاهر!، والسبب الثالث في فشل الثورة العرابية هو الخيانات المنظمة في صفوف الثوار والألوية العسكرية، والتي كانت سببا مؤثرا في إحداث شرخ عميق في اللحمة الثورية لتحقيق المصالح الوطنية العليا، وما أكثر هذا الصنف الأصفر العفن في أي مسارٍ إصلاحي عربي أودى بالجميع إلى مذابح موجعة وليس العراق ببعيد عنا.

خلاصة القول إنَّنا بحاجة إلى الوعي واستيعاب ثقافة "الثورة" حتى لا نركن على رصيف التاريخ بأننا لم نكن سوى فقاعة، الشعوب العربية ليست بحاجة إلى (بنج) ينسيها قضاياها الجوهرية في إصلاح التعليم والاقتصاد والبحث العلمي، ليست بحاجة إلى تناسي البرنامج السياسي الإصلاحي البديل في ظل المطالبات البالية التي تقرع بطبول من يطالبون بإسقاط الحكومات، هي ليست بحاجة إلى شعارات براقة تذكرها بالجنة والنعيم والجهاد ضد حاكم (جائر) دون التذكير بالقضية العربية الجوهرية التي طال أمدها لأكثر من ستة عقود حيث القضية الفلسطينية، المواطن العربي لا يريد أن يوصف بالفاتح العظيم في ظل فتاوى هزيلة يطلقها بعض (أصحاب كوبونات الجنة) لتحل دم بعضهم البعض وتكفر بني جلدته لأنه يسدل يديه في الصلاة أو يضمها أو يقول أن القرآن منزل أو مخلوق! جيلنا الحالي لا يفقه عن علي (كرم الله وجهه) أو عن معاوية (رضي الله عنه) شيئا، ولا يريد ذلك؛ لأنه لم يجد من ذكرهما بين رجالات الدين والتاريخ إلا ذكر التناحر والتنابز بالألقاب وهو يقرأ قول المولى جل في علاه: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساءٍ عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون"، استرخوا قليلا وأخرسوا بنادقكم فالتاريخ أحيانا يكون كما يقول علي الوردي: "التاريخ الذي درسناه في المدارس جعلنا نحفظ الملوك وفتوحاتهم دون أن نسأل عن مشاعر الشعوب المكبوتة بعد الفتح".

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك