مركز ذاكرة عُمان

زاهر بن حارث المحروقي

من الخطأ التركيز على الماضي فقط دون الاهتمام بالحاضر والمستقبل؛ فالاهتمامُ بالماضي يجب أن يكون مفتاحاً وحافزاً لبناء الحاضر والمستقبل، أمّا مجرد التغني بالماضي ونسيان المستقبل فهو نوعٌ من أنواع الفشل وهو هروبٌ من الاعتراف بهذا الفشل. ويأتي في مقدمة الاهتمام بالماضي بذل الجهود لجمع وطباعة المخطوطات العمانية بتحقيقات عصرية من قبل مختصين وإخراجها الإخراج اللائق حتى تكون في متناول الجميع، لأنّ هذه المخطوطات هي ذاكرة عمان الحية عبر التاريخ، وفي الواقع هناك الآن جهات في عمان تهتم بجمع المخطوطات والوثائق الخاصة والعامة، وبدأت في طباعتها وعرضها في معارض الكتب، في جهد مشكور ومقدّر، إلا أنّ المسألة تحتاج إلى خطوة أكثر من مجرد إنقاذ هذه المخطوطات من الضياع، بأن يتم طباعتها محققة تحقيقاً علمياً وعصرياً. ومبادرةُ "ذاكرة عمان" هي المبادرة الأبرز الآن في هذا المجال، وهي مؤسسة أهليّة علميّة ثقافية غير ربحية، مسجلة لدى وزارة التراث والثقافة، تُعْنَى برصد الذاكرة العمانية على تنوُّع روافدها، واحتواء المُنْجَز الفكري العُماني على اختلاف أوعيته، تأسست نواة المبادرة الأولى عام 2004م، وأُعْلِنَ إشهارُها رسمياً في ديسمبر 2013م، وقد استطاعت أن تجذب الكثير من زوار معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الأخيرة، نظراً لما احتواه جناحُها من كتب ومخطوطات عمانية منوعة ومطبوعة ومحققة بأسلوب عصري.

في لقاء إذاعي عبر برنامج "المشهد الثقافي" أشار الباحث محمد بن عامر العيسري -وهو أحد مؤسسي ذاكرة عمان- أنّ المؤسسين، يسعون إلى أن تكون "ذاكرة عمان"، مركزاً بحثياً للدراسات العمانية، والحاضن الأكبر للتراث الفكري العماني، والمتميز في تقديم الخدمات المعرفية، وأنّ رسالة المركز هي إيصال التراث الفكري العماني إلى العالم والإنسانية جمعاء، وعرّفَ ذلك التراث بأنه كلُّ ما كُتب من مؤلفات بكافة تخصصاتها والشعر وكذلك الرسائل العلمية. وفي سبيل تحقيق ذلك، انطلق الأعضاء في بحث ميداني عن وثائق ومخطوطات ومطبوعات نادرة وصور وصحف ومجلات قديمة، وتركّزَ البحث على المخطوطات المحفوظة في الخزانات الخاصة لحقب طويلة، وشمل المسح جميع محافظات السلطنة، مع تركيز الاهتمام على بعض المناطق ذات الأهمية التاريخية، لمظنة احتوائها على قدر كبير من التراث الوثائقي، وتمت أغلب عمليات المسح طيلة عشر سنوات (2004 - 2013م) قبل التأسيس الفعلي والإشهار الرسمي للمركز، تمهيداً لوضع النواة الأولى التي ارتكز عليها العملُ فيما بعد. ولم يكتف الأعضاء المؤسسون بالبحث عن الوثائق في عمان فحسب، بل سعوا إلى مسح الفهارس والسجلات المتاحة للمكتبات العربية والإسلامية والعالمية، بحثاً عن أي مادة تتعلق بالتراث الوثائقي العُماني، وشمل المسحُ الفهارسَ الورقية المنشورة وغير المنشورة، والفهارس الإلكترونية، والزيارات الميدانية لبعض المكتبات، ومراسلة القائمين عليها للتبادل الثقافي، وقد أنجز فريق "ذاكرة عمان" حتى الآن تصوير ونسخ نحو خمسة آلاف عنوان مخطوط من المكتبات الأهلية التي لا يعلم الناس عنها شيئاً، أمّا الوثائق العمانية فتمتلك منها ما يزيد عن عشرين ألف وثيقة رقمية مصورة، ونحو ألف عدد مصور من الصحف والمجلات القديمة، وفي مجال بواكير المطبوعات القديمة يملك المركز أقدم كتاب عماني صدر مطبوعاً، في سنة 1295هـ/ 1878م، وأحْصَى المركز 193 مطبوعاً عمانياً صدرت بعد قرن من ذلك التاريخ، وسعى إلى تصوير أغلب تلك المطبوعات نظراً لقدمها النسبي وندرتها وصعوبة الحصول على نسخ أصلية منها الآن، وقد تمكنت "ذاكرة عمان" من الحصول على معظم نسخ الصحف العمانية المهاجرة، والتي صدرت في زنجبار، مثل "الفلق" و"النهضة" و"النجاح".

ويُحسب للمركز أنّه تمكن حتى الآن من فهرسة خمسة آلاف عنوان من تلك المخطوطات إلكترونيّاً، فهرسةً تتماشى مع المواصفات العالمية، وجاهزة على شبكة الإنترنت، من خلال الموقع الإلكتروني الذي صمم ليتلاءم مع تطلعات الباحثين، ويشمل الموقع الإلكتروني قسماً للمخطوطات العمانية، وآخر للكتب التي تصدرها "ذاكرة عمان"، وثالثاً للكتب الأثرية، ورابعاً للأطروحات العمانية، وخامساً للصور النادرة، وسادساً للوثائق العمانية ذات الطابع التاريخي والعلمي، وكلها متاحة للباحثين؛ إذ يضم الموقع في إحصائيته حتى الآن 1015 مخطوطة، و38 تحقيقاً، و6 مصادر، و741 صورة، و77 مقالة، و412 أطروحة، و234 وثيقة، وكذلك 119 أصداراً من إصدارات المركز. أما عن الطباعة الورقية، فقد أولت "ذاكرة عمان" هذا الجانب اهتماماً جيداً، إذ تمكنت من إصدار مطبوعات ورقية تعكس صورة أولية للتراث العماني وخفاياه، وتتناول مختلف جوانبه الحضارية، وقد بلغت إصداراتها حتى نهاية العام الماضي 2015م، 119 إصداراً، وهي نسبة جيدة قياساً إلى الفترة الزمنية القصيرة، وقياساً إلى ضعف الإمكانيات المادية لدى القائمين على المشروع.

إنّ مبادرة "ذاكرة عمان" في إحياء التراث العماني وتقديمه لعامة الناس، هي مبادرة جاءت في وقتها؛ ففي الوقت الذي تشير فيه بعض المصادر إلى أنّ عدد المخطوطات في عمان يزيد عن 60 ألف مخطوطة موزعة بين المكتبات الخاصة والعامة وبعض المؤسسات الثقافية، فإنّ الكثير من المخطوطات العمانية في الخارج فُقدت أو في طريقها إلى الفقدان، بسبب الإهمال العماني الشديد في هذا الجانب، ممّا أغرى الآخرين باستغلال هذا الظرف، وأرى أنّ مساندة مبادرة "ذاكرة عمان" هي مساندة واجبة من قبل الجهات الرسمية والخاصة ومن الأفراد، فالوثائقُ تحتاج إلى صيانة وترميم، و"ذاكرة عمان" - حسب القائمين عليها- لا تملك القدرات والإمكانات اللازمة لترميمها، وتتعاون في إطار محدود مع بعض الجهات المعنية في السلطنة لتحقيق ذلك، ومع ذلك فهي تسعى إلى تخصيص مساحة جيدة لمعمل ترميم يتولى هذه المهمة في المستقبل عندما تتحسن الظروف المادية.

وإذا كانت "ذاكرة عمان" في الأصل مبادرة أهلية غير ربحية، فإنّها تشير إلى أنّ بإمكان المواطنين أن يقوموا بمبادرات كثيرة بدلاً من الانتظار من الدولة أن تقوم بذلك، - رغم أنّ هذا من صميم عمل المؤسسات الثقافية الرسمية- فيكفي ما ضاع من تراثنا وتاريخنا وفنوننا عبر السنوات الماضية، ويكفي ما تمّ من تبادل التهم حول التقصير في تلك السنوات، ففي النهاية إنّ التراث هو ذاكرة الشعوب التي لا تُمحى، فيجب ألا يُنسى، والمسؤوليةُ في المحافظة عليه هي مسؤولية مشتركة، وهي المسؤولية التي جعلت أربعة من الشباب المتحمس يؤسسون مركز "ذاكرة عمان"، وهم محمد بن عامر العيسري، وسلطان بن مبارك الشيباني، وصالح بن سليمان الزهيمي، ومحمود بن عبد الله الصقري، وكلهم من الباحثين والمهتمين بالتراث والتوثيق والتحقيق.

كثيرٌ من تراثنا العماني ما يزال غائصاً في بطون المطولات من الكتب العمانية، خاصة الكتب الفقية التي يصل بعضها إلى عشرات المجلدات؛ وفي متون هذه الكتب هناك الكثير من الخطب والوثائق والأشعار، فيجب استخراج هذه الكنوز من داخل تلك الكتب وفصلها في إصدارات خاصة، لأنّ ذلك سيكون مساهمة في مجال النشر، تُقدِّمه الثقافة العمانية للثقافة العربية، ولو استُخرجت هذه المقطوعات لأوجدنا كنزاً للأجيال القادمة؛ وفي الواقع هذا ما نريده من "ذاكرة عمان" ومن كلِّ من لديه المخطوطات والوثائق، وحتى الرسائل الخاصة.

تعليق عبر الفيس بوك