رعشة الحرية

ناصر محمد

عادة ما تكون فكرة السفر جذابة، خاصة عندما تأتي على لسان من سافر والذي يبذل الجهد للإتيان بالصور والإغراءات التي لا تحمل غير الانطباع الملائكي عن البلدان التي زارها. ولكن هل يظلّ هذا الانطباع أيضا في نفوس المسافرين من الأدباء وناشدي الجمال؟ لا يبدو ذلك خاصة في الاقتباسات التي تطرحها الكاتبة السورية غادة السمان في كتابها "رعشة الحرية" والذي ربما يصنّف من أدب الرحلات، فها هو نيتشه يقول: يا للحسرة، فعلى الخرائط نفتّش عبثا عن أرض السعادة، حيث حدائق الحرية دائمة الخضرة، والشباب يزهر في ربيع دائم. أو كما يقول جبران: أنا غريب في هذا العالم، أفكر في وطن سحري لا أعرفه. أنا غريب وسأظل غريبا حتى تخطفني المنايا وتحملني إلى وطني.

ليست غادة السمان من المسافرين الذين تخفّفوا من عبء التاريخ وهمومه لكي ترى العالم بخفة الفرح، فهي تؤرخ رحلاتها إلى أميركا وأوروبا في الثمانينات والتسعينات، تلك الفترة المشحونة بالألم والأمل أيضا، تتربع فيها الحرب الأهلية اللبنانية قائمة المآسي ويجاورها الوضع الفلسطيني. فغادة ترى الحرية والديمقراطية سمتين دائمتين للشعوب الغربية، وتسقط في هوة المقارنة بقسوة جبرية حين تتذكر أن الألعاب النارية التي تغطي سماء الغرب يكافئها صوت إطلاق النار والقتل والحرائق في شوارع وطنها العربي، فذاكرتها لا تسعفها أن تؤجل اللحظة اللذيذة الراهنة دون أن تعتدي عليها حقائق الحياة في الشرق!

لا يعني ما ذكر أعلاه أن غادة فقدت بريق الرؤية الجمالية للحياة الغربية، فهي قبل كل شيء أديبة وفنانة مبدعة، بل تبدأ منذ الصفحات الأولى بنقد الحياة المادية في حي مانهاتن بنيويورك، فالمباني العالية الأسمنتية تخنق السائح بماديتها التي زحفت على الطبيعة، ولكن نيويورك كما تقول غادة السمان: حبيبة عنيدة، تخرج من أكمامها وقبعتها الأرانب والمناديل الملونة حين تشعر أنك تكاد تضجر منها. فالأسمنت يتأنسن ببعض اللمسات الإنسانية كالمنحوتات والحدائق والمنتزهات وعازفي الآلات الموسيقية المتجولين. وتتجلى حاستها الفنية حين تذهب إلى متحف الفن الحداثي بنيويورك "موما" وتشاهد انحطاط الفن وتتويجه بالقاذورات والفضلات، لتختتم بقولها: هل يحق لكوكبنا هدر ملايين الدولارات على هراء "مكيف الهواء" كهذا في المتاحف باسم الحداثة بدلا من إطعام الجياع على أبوابها؟.

وربما تجد غادة نفسها أكثر في أوروبا وخاصة في عالم الطبيعة، فهي تصف سويسرا ببلاد المفلسين وأصحاب الملايين، وذلك إشارة إلى أن الجميع فيها يتمتع بنفس الهواء النقي والصحة بغض النظر عن التفاوت الطبقي. وترقب السياحة العربية هناك التي تتحدد عندها الأماكن سبب عدم وجود الفضول للاكتشاف والاكتفاء بالكسل الغرائزي. وتنطلق غادة إلى مدينة الفراشات "لوزان" إذ تتصدّر جدران حديقة الفراشات صورة صاحب رواية "لوليتا" الروسي "نابوكوف" وهو طفل، هذا الروائي الذي تكشف هذه الحديقة هوايته الطفولية وهي جمع الفراشات إذ جمع أكثر من أربعة آلاف نوع من الفراشات وأهداهن إلى هذه الحديقة للعناية بها. كما تصف غادة هوس السويسريين بتاريخهم القديم وتأريخهم لمواطن سكن العظماء أمثال فولتير وروسو في الأحياء القديمة، ليأتيها شيطان المقارنة مع الأنظمة العربية التي تستمر بدك التراث لأجل مسح الذاكرة.

تذهب السمان أيضًا إلى سويسرا الفقراء "النمسا"، وتشرح سبب تسميتها أنها لا تقل جمالا عن سويسرا إلا أنّها تختلف عنها في الأسعار، فهي مناسبة جدًا لجميع الطبقات الاجتماعية. وتنصدم بالتناقض الغريب في عاصمة هولندا عندما تخدعها الصور بانتشار زهرة التوليب في أنحائها في حين لاوجود في امستردام سوى للحشود البشرية والمواصلات والبنايات!! وتذكرت حال "جبران خليل جبران" في أميركا ونسيانه فيها حين ذهبت إلى موقف "آن فرانك" في امستردام، وهي طفلة يهودية توفت في الحرب العالمية الثانية وتركت مذكراتها التي كتبتها بين عامي 1941-1942 في ذلك المكان حين أقامت مع أهلها إقامة جبرية هربا من النازيين، ليكون مصيرها الموت بعد 3 سنوات في المعسكرات النازية. فقد رأت غادة طوابير طويلة من السياح أمام ذلك الضريح الرمزي، ولاحظت تكرار اسم "آن" في كل زاوية تراها لتشهد قوة الإعلام اليهودي في تذكر أمواته، أو كما يصف "كونديرا" في كتابه "لقاء" حال أوروبا بعد الحرب بأنّها ذاهبة إلى الماضي وليس إلى المستقبل وذاكرتهم عن الموتى أكثر من الأحياء.

وفي ألمانيا، تقرر غادة زيارة مدينة "بون" وبالتحديد بيت الموسيقار الخالد "بيتهوفن"، وتبدي غادة اندهاشها من اهتمام الحكومة بتهيئة الزائر لهذا المعلم الكبير وذلك باستحضار عالم بيتهوفن دون تشويهه بالحداثة، وضايقها عدم تمكنها من اللغة الألمانية إذ أغلب الشروحات لسيمفونياته بهذه اللغة والتي تلقي اللوم على الاستعمار الذي حدّد عدستها اللغوية، وعاتبت أيضا الحكومة الألمانية بحرمان الشعوب الأخرى من الاستمتاع ببيتهوفن بلغاتهم. وتقترب غادة من محطاتها الأخيرة وأهمها المدينة الإسبانية "برشلونة"، ووصفتها بأنّها مدينة بسبعة أرواح، فهي المدينة التي صمدت أمام الغزوات والفتح واحتفظت رغم كل ذلك بأخلاق الأرياف من التسامح والفرح البريء مقارنة مع المدن الأوروبية الأخرى.

تتميز غادة السمان في كتابتها بموسوعيتها الأدبية الغربية والعربية، فكثير من الأسماء تمر عليها مثل نيتشه ودوستويفسكي وفان جوخ وبيتهوفن والمعري، كما أنّها معتدلة في فكرها النسوي وتتجنب التطرف وذلك في عدة أمثلة ذكرتها أثناء ترحالها، وأسلوبها بعيد عن التكلف ومحاولة الاقناع بل تميل إلى الوصف وإدخال القارئ إلى العالم المشاهد بموضوعية وجمالية واضحة. وربما يتجلى ذلك في الإهداء بمقدمة الكتاب حين تقول: إلى عشاق الحرية وصيادي الدهشة والمجهول. لو كنت غيمة، لحملتكم معي إلى أقاصي الأرض، لو كنت ريحًا لنفخت في أشرعتكم،، لكنني لا أملك ما أهديه غير سطوري، وعسى أن تتحول أوراق هذا الكتاب إلى بساط ريح، وتحملكم إلى رعشة الحرية.

تعليق عبر الفيس بوك