"ربِّ اجعل هذا البلد آمنا"

د. محمد بن سعيد الشعشعي

إنَّ الله خلق الرُّوح، وأمر عباده بمراعاتها؛ وسنَّ لذلك تشريعات تحفظ على الإنسان نفسه، وتدفعه إلى الأعمال الصالحات من أجل الفوز في الدارين.. وحذَّر أيما تحذير من الاعتداء على أرواح الآخرين أو ترويعهم وبث الزعر في قلوبهم؛ والشواهد على ذلك من آيات وأحاديث نبوية شريفة كثيرة ولا يسع المقام ذكرها.

ومن هذا المنطلق، فإن الأمن بمفهومه الواسع، هو تضاد الخوف؛ إذ هو الشعور بالطمأنينة والسكينة. أما هذا الكائن الأسود المسمَّى بـ"الخوف" فهو مصطلح للرعب والإرهاب والتعاسة والشقاء؛ لذا نجد أن في آيات الله ذكرا لفضل نعمة الأمن على سائر النعم بعد عبادة الله؛ ومن ذلك قوله تعالى: "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "منَ أصَبْحَ منِكْمُ آمنِاً فيِ سرِبْهِ معُاَفىً فيِ جسَدَهِ عنِدْهَ قوُت يوَمْهِ فكَأَنَّماَ حيِزتَ لهَ الدُّنيْاَ". وكان -صلى الله عليه وسلم- عندما يرى أهلة الشهور العربية يقول: "اللهم أهله علينا بالأمن والأمان والسلامة والإسلام هلال خير ورشد ربي وربك الله".

وعند تأمُّل سياقات النص القرآني، والتشريع الرباني الواضح في الكتاب والسنة، ندرك أن الله خلق البشر من أجل إسعادهم في الحياة، وهذا السعادة لا تكون إلا بالأمن؛ لذلك فضَّل الله -سبحانه- نعمة الأمن على سائر النعم بعد عبادة الله، ليبيِّن عظمة تلك النعمة بين بني البشر، فعندما يذهب الخوف والرعب تستقيم الحياة وتتفتح زهور الأمل لتضفي عطرها الياسميني الزهري على كل نفس طاهرة حية، فتصبح الابتسامة روحَ التعامل، ويغدو العمل شعارا للبناء ورمزا لتقدُّم ورقي المجتمعات، وإذا استتب الأمن نستطيع أن نسخِّر الطاقات للتنمية، ونستثمر الموارد للعطاء، ونعصر من العقول فكرا ناضجا ومنتوجا ثقافيا مستنيرا فينهض التعليم، وتزدهر التجارة، وتشيَّد المصانع الضخمة وتزدهر الحياة فرحا وسعادة؛ لهذا نجد أنَّ دعوة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- حين قال "رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات"، فقدم سبحانه نعمة الأمن على نعمة الغذاء والطعام؛ إذ لا يمكن أن تتهنى أو تتلذذ به أو تسعد بالثمرات والنعم في ظل غياب الأمن والاستقرار، فهل يُمكن أن أيًّا منا إذا ما سافر خارج الدولة أن يذهب إلى مطعم عالمي به ألذ وأشهر المأكولات العالمية وبأسعار زهيدة، لكنه في حيٍّ مُرعب تكثر به الاغتيالات والاختطافات والعصابات، لا أعتقد أننا نستطيع أن نقترب حتى من ذلك الحي أو من المدينة بأكملها، أي أنَّه مهما تنوَّعت أصناف ولذائذ الدنيا وما بها من خيرات وأطياب لا فائدة منها ولا طعم لها إلا في جو آمن يضمن السكينة والهدوء والاستقرار.

بعض الدول العربية التي غرِّر بشعوبها، ودخلت في ثورات "الربيع العربي" طلبا للعدالة، وطمعا في الحرية، وبحثا عن الديمقراطية، كان حصادها فقدان الأمن والاستقرار، وجلبت لشعوبها القتل والتشريد والدمار، وأدخلتها هذه الثورات في مستنقع من الفوضى وبرك من الدماء، وأفقدتها كل معالم الحياة وأساسياتها؛ لهذا لا يمكن لشعوبها أن تنعم بالسعادة والرفاهية ما لم تعُد الحياة إلى طبيعتها.

... إنَّ نعمة الأمن، لهي بحق كنزٌ ثمين، كلنا شركاء في الحفاظ عليه وحمايته من كل ما يسيئ له؛ فالأمن هو الوطن، وبغيابه يغيب النظام والقانون، وتأتي الفوضى والعشوائية التي تنخر عصب الدولة وتسلب مقوماتها، فتصاب بالشلل النصفي وتزداد الحالة من سيئ إلى أسوأ، فتصل بها الحال إلى النقطة الحرجة ثم الموت. ولكن، ليكن في ذهن الجميع، أن من سُنن الله في كونه أنه تعالي لا يُغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم. فاللهم أدم علينا نعماءك التي لا تعدُّ ولا تحصى، وأنعم بالصحة والعافية على مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه.

تعليق عبر الفيس بوك