جامعة عُمان وضرورة مراجعة التعليم

علي بن مسعود المعشني

الحديثُ عن التعليم في سلطنتنا الحبيبة حديثٌ ذو شجون؛ فالتعليم عصب تنموي وتوعوي ورهان حقيقي لكل شعب ودولة تلتمس النهوض والتطور ومغادرة مواقع التخلف والعثرات وإجترار الماضي وإعادة إنتاجه.

حزب العُمَّال البريطاني رفع شعار "التعليم، التعليم، التعليم"، في حملته الانتخابية عام 1998م؛ حيث حذر رئيسه حينها توني بلير من أن الفجوة العلمية تزداد بين بريطانيا وجوارها الأوربي وأمريكا، وقدر تلك الفجوة بخمسين عامًا. وتعهد لمنتخبيه بإعادة مراجعة التعليم بكامل منظوماته وأنواعه في بريطانيا لضمان تطورها ورفع وتيرة التنمية فيها مقارنة مع العالم المتقدم من حولها.

والعالم اليوم يُراجع منظومات التعليم -خاصة التعليم العالي منها- والتي في مردها الأول والأخير غربي نظرًا لما سببته هذه المنظومة من إخفاقات وأضرار للإنسان والتنمية بمفهومها الشامل، نتيجة اعتماد التعليم التخصصي بدل التعليم الموسوعي، وجعل التعليم من أجل العمل لا من أجل الحياة؛ حيث فقد التعليم رسالته وقدسيته وأصبح يعادل المال الذي سيجنيه المتعلم فقط بعد تخرجه والتحاقه بسوق العمل.

لذا كان من الطبيعي أن يفتتن كل علم بما لديه وبمعزل عن العلوم الأخرى، رغم التداخل والتكامل العضوي بينها، وتفضيل علوم وتخصصات على غيرها بزعم حاجة السوق وبالتالي الإخلال المفرط بالبنية العلمية والمعرفية للمجتمعات ومن خلالها إنبات ثقافات وقيم ضارة بها وطارئة عليها. ونحن في سلطنتنا الحبيبة لسنا بمعزل عن العالم ولا بمحصنين عن الإخفاقات التي تطفو على سطح التجارب البشرية ومنها التعليم بين مرحلة وأخرى. فنحن مجتمع صغير وفتي في طور التعليم العصري وحري بنا تلمس النافع بنا وتجاوز عثرات الآخرين؛ فحداثة عهدنا وحجم سكان السلطنة لا يحتملان المغامرات أو تكرار إنتاج الفشل وأخطاء الماضي. فحريٌّ بنا اليوم التحلي بالشجاعة والتبصر لمراجعة منظومة التعليم برمتها وفي جميع حلقاتها ومراحلها، لنعمل على تقويم الاعوجاج منها وتقييم المتعثر وما تجاوزه الزمن من وسائل ونظم تعليم وتأهيل ومناهج قبل الانغماس في المزيد، ونجد أنفسنا في معضلات أكبر من قدراتنا على التغيير أو حتى التفكير فيه.

فالملاحظ اليوم، وبجلاء شديد، هو تدنِّي وضَعْف مُخرجات التعليم بجميع مراحله، ووجود فجوة بين التعليم العام والعالي تظهر أعراضها في مراحل القبول واختباراتها من ضعف تحصيل الطالب في عدد من المواد المهمة لتحصيله التعليمي العالي،كما أن الحلقة بين التعليم المهني والتقني لا تزال مفقودة، وهذا ما يُسبِّب ضعف مخرجات التعليم المهني وعزوف الشباب عنه لتحجيمه وضيق أفقه العلمي ومستقبله الوظيفي.

كما فشل التعليم بمنظومته ومحتواه الحالي في خلق مفهوم جلي للمواطنة وصهر المواطن في قالب الوطن بعيدًا عن المنفعة والمصلحة الوظيفية والجني المادي للتعليم ومردوده، ومرد ذلك خواء المناهج من زخم معرفي وعلمي يرسخ الشعور الوطني والمواطني والقيم بقوة وإقناع بعيدًا عن الشعارات والوعظ التقليدي الخالي والمجرد من أي عمل ومنطق وشيوع المناطقية في توزيع المؤسسات التعليمية العليا.

يُضاف إلى كل ذلك، ضعف المخرجات الأكاديمية والتي ستسبِّب الوهنَ كدورة الحياة في حال توليها مناصب أو منابر تقويم وإرشاد كالتعليم والإعلام مثلًا.

فقد جرفتنا التقنية وهرولنا بلا وعي خلف التكنولوجيا وتجاهلنا مفاتيح نهضات الشعوب والمتمثلة في العلوم الإنسانية، ففقدنا الصواب، وفقدنا العلمين معًا الإنساني والتقني، لغياب النظرة والتخطيط والحاجة النابعة من ذواتنا.

فالملاحظ اليوم أن المؤسسات التعليمية العليا الحكومية منها والخاصة تتبادل تخصصات ضحلة ومكررة تهدد السوق والمجتمع بتكدس وظيفي وبطالة مرتقبة لامحالة، كما لم يعد يخفى نزعة البعض منها للربح المادي العاري في ظل غياب لرقابة أكاديمية حقيقية عليها.

كما أنَّ أغلب العلوم الإنسانية التي يعول عليها الارتقاء بالوعي والفكر والإبداع لا تزال عامة في عمومها، وبلا تخصصات نافعة، كالإعلام والقانون وعلم الاجتماع وعلم النفس والفنون. وبلا شك أنَّ الربيع علمنا أن البلدان التي تماسكت فيها المجتمعات والدولة ولم تتصدع كما كان يرجى ومخطط لها، يعود الفضل فيها لوجود بنية معرفية وعلمية من العلوم الإنسانية وشرائح مهمة من مخرجات تلك التخصصات والتي استطاعت جبر ضرر مجتمعاتها وإعادة الأمور إلى صوابها ونصابها بحسن إدارتها وإسهامها في هذه المرحلة المفصلية التاريخية الحادة.

نحن اليوم نترقب ولادة جامعة عُمان كثاني جامعة حكومية بعد طول مطالبات وانتظار، ولكننا نتمنى أن تعمل هذه الجامعة على تجاوز عثرات المؤسسات القائمة وتكمل نقائصها من تخصصات ونظم قبول وتأهيل ومناهج لنحظى بمخرجات تليق بطموحنا ونطمئن لقيادتها لمصير الوطن مستقبلًا.

------------------------

قبل اللقاء: إذا كانت العلوم التقنية تُمثِّل العقل، فإن العلوم الإنسانية تمثل الضمير، ولا ارتقاء لأي مجتمع أو دولة بلا تكامل عضوي بين القوة والضمير... وبالشكر تدوم النعم!

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك