وعاد الحبيب بعد غياب

عائشة البلوشية

في الطريق إلى محافظة الباطنة شمال يوم الخميس عصرًا، هاتفت جدتي الغالية فرفعت السماعة بعد ثلاث رنات كعادتها، فهي لا تزال تخشى انقطاع حرارة الهاتف إذا رفعت السماعة مباشرة، وهذا ما كان يحدث في فترة السبعينيات، ورغم تأكيدنا لها بأنّه لا ضير من إجابة الاتصال مباشرة، ولكنّها تتشبث بقناعاتها، جاءني صوتها الحبيب محييا، فرددت السلام بالطريقة التي تعرفني بها مباشرة، ثم أردفت قائلة: البشرى البشرى، فصرخت فرحة قائلة: بشرك الله بالجنة، هل أنت في الطريق إلى عبري؟ قلت: وإياك يارب أيتها الحبيبة، سأكون بإذن الله في طريقي إليك قريبا ولكنني أردت أن أبشرك بخبر قدوم غائب اشتقت لسماع خبر عودته "فلج العراقي"، وهو في طريقه إلى البلاد؛ ووالله لو أنني حاولت وصف تلك الفرحة والبشر الصادق في صوتها فلن تسعفني الكلمات في لغة الضاد، و لو أنني جربت وصف تلك الاختناقات بكلمات السعادة التي تخللت كلماتها، التي جعلتني أغص بدمعة الفرح ﻷنني كنت أول من يبعث الفرح في نفسها بهذا الخبر لحبيب غاب أكثر من إحدى عشرة سنة، فلن أستطيع أن ألم بتفاصيل التعبير الجمالي في صوتها، ثم سألتني: أأنت أكيدة من هذا الخبر؟ وهل حقا فلج العراقي قادم نحو البلاد؟ وأكدت لها صحة الخبر، ثم تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي هذه البشارة التي ترجمتها دموع فرح الكبار...

جاء خبر تدفق الفلج ونحن نودع فصل الشتاء، ونبدأ في الدر العشرة لحساب الدرور في محافظة الظاهرة، لموسم الصيف والذي يستمر لمدة ستين يومًا، نستبشر بعدها برطب النغال، أمّا هذه الستين يومًا فتبدأ بمصطلح يعرف بـ"عشر الخادم"، وهي من المواسم الماطرة المصحوبة بالصواعق والرعود، وﻷنّ الناس ينشطون ويخرجون إلى رعي أغنامهم قديما بعد موسم "البلي"، ومنهم من يخرج للاحتطاب أو السعي في طلب الرزق خادمًا بذلك مجتمعه ونفسه، فإنّ هذه الحالة الجوية تفاجىء هذه الفئة من الناس، فيتعرضون إلى ما لا تحمد عقباه، ولهذا دأب الناس على تسميتها بهذا الاسم، وهذه الأيام العشرة هي بداية موسم "الشلي" الذي يستمر لمدة أربعين يومًا، يستبشر الناس خلالها بقدوم المطر الذي يحبون رؤيته وسماع دوي رعوده، ﻷنّ خلاله يكثر ظهور نبات الفقع أو الكمأة (نوع من أنواع الفطر اللذيذ)، الذي يعشقه مرتادو الصحراء باحثين عنه، وفي هذا الدر أيضا تكثر الدوامات القمعية والتي كانوا يرعبوننا بها صغارًا بأن قبيلة من قبائل الجن ترتحل، لذلك وجب علينا أن نبتعد عن مجال تحركها، ولها اسم مضحك "الهبيبو" يتبادر للذهن عند سماعه بأنّه تعبير صادق عن ارتحالهم...

شهر مارس هذا الشهر الجميل الذي زفّ لنا عبير وصول حبيب شعبه -يحفظه الله ويرعاه- من جمهورية ألمانيا الاتحادية بعد رحلته العلاجية الأولى، وأصبح له وقع خاص في نفس كل عماني، جاء هذا العام ليحمل إلى أهل محافظة الظاهرة بشكل خاص خبر عودة فلج العراقي وفلج العينين إلى الحياة، ويتوافد الجميع إلى شريعة فلج العراقي لمشاهدة هذه الأمنية الغالية، وتنشط الأيادي الرائعة من الشباب في معزوفة خدمية متناسقة مع دماء الأجداد التي تجري في عروقهم لتنظيف ثقاب الفلج والمجرى والسواقي، وكأنهم يقومون بعملية لتنظيف الشريان التاجي لقلب بلدة العراقي، منقذين بها توقف سيلان الماء وتوقف الحياة، بعد أن كان يئن ضعفًا بسبب قلة الهطول لرحمة السماء في السنوات الماضية، فيستمع البشر والشجر والطير والدابة إلى وجيب قلب هذا الغائب المحب لهذه الأرض، ويستمتع الجميع بصوت خرير الماء في الجداول، ويعود البشر وطعم الحياة باعثا الأمل في ما عند الله من خير..

الحبور والبشر بالماء عجيب، الكبير والصغير مستبشر حامد شاكر لما رأى من رحمة أحسن الظن بخالقه أنّها ستأتي، وظل يترقب كل خبر عن الحالات الجويّة الأربع الماضية، ولكننا جميعا لم نكن لنتوقع أن تكون المفاجأة بهذا الحجم من الجمال والبهاء، فاللهم مثلما بعظمتك ترحم ضعفنا وتسعد قلوبنا بالغيث والقطر والديم والمطر والهتان، أسعد قلب كل عماني بمزون الطمأنينة وأمنن علينا بفرحة عودة مولانا وأبينا قلب عمان النابض حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم مكللا بتاج العافية ومسربلا برداء الصحة، فالشوق إليه لا ينضب، والدعاء بدوام وجوده بيننا لن يخبو، والهمة لبناء عمان الغالية لن تفتر، ووالله إنّه الماء والهواء والحب الصادق في نفوس شعبه وأرواحهم..

توقيع:
"تضرع للعلي فكل عبد.. يغاث إذا تضرع للعلي
ولا تجزع إذا ما ناب خطب.. فكم لله من لطف خفي"،،،
الإمام علي كرم الله وجهه.

تعليق عبر الفيس بوك