مواقف خالدة في ذاكرة معتقة (7)

علي بن سالم كفيتان

قال لي محمد: "فصل الصيف في جبال ظفار ليس كغيره من الفصول؛ حيث تتفتح الزهور، وتثمر الأشجار البرية، ولكنها تكون فترة الجدب من الحشائش، فتصبح المواشي هزيلة ويقل الحليب، وحتى مخزون الناس من الأكل ينفد، ولا مناص من البحث عن دعم حتى يأتي الخريف".

يقول محمد: "ذات صباح ناداني أبي، وقال أنت من سيرافقني للمدينة اليوم، فرحت كثيرا لأني سأكتشف عالمًا جديدًا؛ فللمدينة في ذاكرتي مشهدٌ يتيم، إنَّه مشهد المقبرة عندما مات الراوي، بحثتْ لي جدتي عن ثياب أقل اتساخاً، وأخرجت من قصعتها الفضية عطرا جامدا رائحته نفاذة، وعطرتني به، ثم أعطتني ورقة نقدية هي الأولى التي استلمتها في حياتي، فسألتها يا جدة ما هذا؟ قالت نقود، فقلت لها وما الفائدة منها؟ قالت تشتري لنفسك بها ملابس من الحصن، وظلت كلمة الحصن في رأسي، ذلك المجهول الذي لم أسأل عنه الجدة خوفا من توبيخها لكثرة أسئلتي.

رافقنا في هذه الرحلة سبعة رجال وامرأتان وثلاثة حمير وجمل، عندما انتهينا من نزول الجبل ووصلنا للسهل، جلس الجميع إلى ظل شجرة وانهمك الرجال والنساء في جمع الحطب الذي كان وفيرا في تلك المنطقة، وما هي إلا ساعات حتى حمَّلوا الجمل والحمير بحمولات كبيرة من ذلك الحطب، وأذكر أنَّ هناك من كان يحمل حزمة حطب على ظهره، ولم أفهم ما هو الهدف من هذا الحطب سوى أنني فكَّرت ببراءة الطفولة أنهم سيذبحون بقرة عند المقبرة، وربما الحطب للطبيخ، وأذكر أنني أخذت قطعة حطب على كتفي كتضامن مع هذه المجموعة من الحطابين.

وعندما وصلنا إلى مقربة من البوابة، وقف الجميع ونوَّخنا الجمل، بينما ظلت الحمير واقفة رغم حمولتها الزائدة، وهنا لمحت حركات غريبة؛ فالجميع يتكلم بلغة منخفضة، وكل واحد صار يُخبِّئ النقود التي معه في مكان لا يستطيع الحرس العثور عليها، وأبي لا يعلم أنني أحمل نقودَ جدتي، وعندما رأيتهم يعملون ذلك أدخلت الوق النقدية التي بحوزتي في شق عميق وسط قطعة الخشب التي أحملها، كان هناك رجل يحمل قربة جلدية مليئة بالعسل، وآخر لديه تنكتي سمن، وأذكر أنَّ أحدهم أخفى ما لديه من نقود في تنكة السمن بعد أن لفها جيدا بقطع من القماش، بينما النساء جلسن معا والظاهر أنهن لا يحملن شيء.

وصلنا إلى البوابة التي كان عليها رجال أشداء يتعاملون بفظازة، وكان قبلنا في هذا الجمرك العجيب أناس آخرون رأيت بأم عيني امرأة تنتحب بعد أن قامت مفتشة الجمرك بأخذ نقودها، ورأيت حارسًا يسكب تنكت سمن على الأرض لكي يفتش ما بداخلها ولم يجد شيئًا، فقال له الرجل والسمن الذي سكبته؟ قال باستهزاء عليك بجمعه، فأخذ تنكته الخالية وأردفها على جمله ليدخل المدينة خالي الوفاض. عندما حان دورنا أخضع الجميع لتفتيش دقيق، وأذكر أن أبي فقد نقوده، بينما الرجل العجوز الذي لديه السمن نجا، ربما شعر الحارس بالذنب مما فعله مع الذي قبله، أما الرجل الذي يحمل سعنة العسل فقد كان ذكيا بما يكفي رأيته يخرج معنا من الجمرك ولديه نصف الكمية وهو يبتسم للآخرين بدهاء.

وأخيرا.. دخلنا المدينة؛ فهي عبارة عن بيوت متقاربة من الطين تفصل بينها ممرات ضيقة تفوح منها رائحة منتنة وتفرقنا من هناك كل واحد يذهب في طريقه واللقاء اليوم التالي ظهرا قبل نقطة الجمرك، أذكر أنَّ أبي أدخلنا إلى دكان أحد أصدقائه من الحضر، ورحب بنا الرجل، وكان سعيدا بمقدم أبي، وجرتهما السوالف بينما كنت أنا أحدق في الدكان المليء الأغراض؛ فهذا أعظم سوق شاهدته حتى تلك اللحظة، وأذكر أنَّ الرجل أعطاني قطعة حلوى عدنية لذيذة المذاق فالتهمتها بسرعة فائقة، وجلست مُؤدبا كعادتي بالقرب منهما، ولكن قلبي وعقلي مع بقية قطع الحلوى المرصوصة على الرف.

قال التاجر لوالدي ضع الحطب في البيت، وغدا مرني ستجد الأغراض التي ترغب بها جاهزة في الدكان، وعلمت من ساعتها أنَّ هذا نوع من المقايضة التي كانت سائدة في تلك الفترة، ذهبنا لمنزل الرجل واستقبلتنا سيدة كريمة، ورحبت بنا وأخذنا وجبة لذيذة من الشاي المخلوط بالحليب والخبز اليابس، ثم وضع الولد حمولة الجمل في فناء المنزل، بينما أنا ما زلت أحمل حطبتي الوحيدة التي فيها ورقة نقود جدتي، فزجرني أبي، وقال ضع الحطب هناك، فرفضت، ولكنه أخذها من على ظهري ورماها على كومة الحطب، وقال هيا نذهب لسوق الحصن، فذهبت معه عدة خطوات، ثم بكيت ونزلت دموعي، وجلست على الأرض، فرجع لي وسألني ما بك يا محمد؟ قلت نقود جدتي في الحطبة التي كانت معي، فضحك وقال اذهب وأحضر نقودك، فتهلل وجهي وركضت مسرعا وأحضرت النقود، فإذا به مبلغ جيد كفانا لشراء حاجياتنا، بعد أن تمَّ مصادرة ما لدى والدي من مال في نقطة الجمرك عند دخلونا... (رحم الله جدتي).

استودعتكم الله موعدنا يتجدد معكم بإذن الله، حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

alikafetan@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك