تراثنا في أمان

أمل الجهورية

كان شعوراً مختلفاً ذلك الذي قادني إلى قاعات ذلك الصرح الحضاري الذي يقف شامخاً مواجهاً لقصر العلم العامر؛ متوشحا لون البياض، محتضنا تاريخ أمة وحضارة شعب لأكثر من مليوني عام، في بناء ممتد لمساحة تصل لـ 25 مترًا مربع تحيط به المعالم التاريخية والحضارية والطبيعة المميزة، وكأنه قطعة من لوحة فنية أختير موقعها بعانية بالغة تعكس الأهمية التي يمثلها، والقيمة الإضافية التي يحققها في رصيدنا الثقافي والحضاري.

إنّ المتاحف أينما وجدت فإنّها تعطي للثقافة إضافة، وللتراث قدراً كبيراً توكد بقاءه عبر الأزمان، وتسرد حكاياته للأجيال، ومن خلاله يمكن تقديم صور متنوعة لتراث ذلك البلد عبر مساحات ممتدة، مؤكدةً أهميتها كجزء لا يتجز من المكون الثقافي لأي بلد؛ فكيف هو الحال ببلدٍ كـ "عمان" حيث الطبيعة البكر، والتاريخ الضارب في القدم، الممتد عبر الحضارات مشكلا سلسلة من الحكايات الجميلة، والبطولات العظيمة، التي جابت شرق العالم وغربه، براً وبحرا؛ لذا كان لابد لها من أن تخلف بصمة جليةً في تراث عميق يسجل اللحظات عبر امتداد الحضارات بوجود مكان قادر على استيعاب حجمه وتنوعه، فكان هذا الصرح المتحفي الثقافي.

إنّ مشروع المتحف الوطني أتي ليتحمل مهمة الحفاظ على مكنونات التراث العُماني، والمقتنيات المادية والمعنوية المكونة لتاريخ وثقافة وفنون عُمان بكافة تجلياتها، وبالشكل الذي يبرز الأبعاد الحضارية والتاريخية والثقافية لهذا البلد، من خلال توظيف واعتماد أفضل الممارسات والمعايير المتبعة في مجالات الإدارة المتحفية، وإدارة المقتنيات، والعرض والمعروضات والمعارض، والأنشطة الخاصة، وخدمات الزوار، والتربية المتحفية، والبحوث والإصدارات، والعلاقات العامة، والتسويق وممارساته، ونظم الأمن المتحفي؛ ليشكل منظومة متكاملة تعكس الجهد الواضح والعناية البالغة من قبل وزارة التراث والثقافة ليكون واقعاً تقصده الأجيال كمنارة علم ومعرفة يشرق من خلالها زائروه على وهج الثقافة والتاريخ العماني الذي تسنده مكنوناته ومقتناياته المتنوعة عبر 15 قاعة لكل منها حكاية مختلفة عن سابقتها ودرس عظيم في كفاح الإنسان العماني عبر العصور .

إنّ تلك المساحة الممتدة ستسفر بعد افتتاحها الرسمي أمام الجمهور عن تزاحم كبير، وتنافس واضح أمام الجميع الذي يرغب في اكتشاف ما يضمه من كنوز معرفية وحضارية هامة؛ كونه يأتي تتويجاً لسلسلة المتاحف الأخرى التي توجد في السلطنة، وهنا تتجسد أمامي تلك الجموع الغفيرة التي رأيتها أثناء زيارتي لمتحف اللوفر بباريس، والمتحف المصري بالقاهرة، ومتحف بولدي بيزولي بميلانو، ومتحف المشاهير ببيروت، وجملة من المتاحف التي سمحت لي الظروف بزيارتها، حيث كانت تشكل لي أهميّة كوني أستطيع التعرف على تاريخ تلك الشعوب من خلال مكونات تلك المتاحف وما تحكيه لي الشواهد من قصصهم. فهو ذات الشعور بالكاد يَتملكُ الكثير من المهتمين بتاريخ عمان، لزيارة هذا البلد وقراءة تاريخه من خلال هذا المعلم المتحفي البارز والذي يضم أفضل الإمكانيات سعياً للحفاظ على الشواهد والمقتنيات المادية والمعنوية المكونة لتاريخ وتراث وثقافة وفنون السلطنة بكافة تجلياتها وإبراز الأبعاد الحضارية والتاريخية والثقافية، مع توظيف واعتماد أفضل الممارسات والمعايير المتبعة في مجالات الإدارة المتحفية وإدارة المقتنيات باستخدام أفضل التقنيات من خلال قاعة العرض السينمائي والشاشات الإلكترونية التي توجد في قاعات المتحف وتعمل باللمس ليعرف الزائر أسماء المقتنايات وتاريخها.

إنّ ما يشعرنا بالسعادة والفخر أيضاً أنّ القائمين على أمر التراث والثقافة في عمان عموماً، والمعنيين بشأن هذا المتحف حرصوا على إضافة جوانب تميّزه عن غيره من المتاحف العالمية منها أنّ المتحف الوطني يضم أول مركز للتعليم المتحفي في السلطنة، هذا إضافة إلى وجود أول مرافق للحفظ والصون الوقائي صُممت وفق معايير المجلس الدولي للمتاحف كما أنّه أول مبنى عام في السلطنة يضم تسهيلات متقدمة لذوي الاحتياجات الخاصة ومنهم المكفوفون وذوو الإعاقة الجسدية من خلال توظيف رموز لغة (بريل) بالعربية وتوظيف العرض المكشوف حتى يمكن التفاعل مع المقتنيات بشكل حسي مباشر وهو أول متحف في الشرق الأوسط يقوم بتوظيف رموز (بريل) العربية في سياق التفسير المتحفي ومنظومة المخازن المفتوحة. حيث يستطيع الزائر أن يشاهد ويعايش المراحل التي تمر بها التحف الأثرية من جرد وتوثيق وفحص مبدئي وحفظ وصون وصولاً إلى مرحلة حفظها بالشكل المؤقت في المخازن المفتوحة وما كان سابقاً يتم خلف الكواليس سيكون في المتحف الوطني متاحًا للمشاهدة بشكل ثابت ومتواصل.

إنّ ما يتميز به هذا المتحف يشكل علامة فارقة في العناية بالتراث العماني، ومحطة نشعر من خلالها بالاطمئنان على تراثنا، لا ننكر وجود بعض التحديات التي تعترض مسيرة أي مشروع جديد؛ إلا أنّها ستضمحل مع التنسيق بين الجهات المختلفة واستشعار أهميّة الدور المطلوب منها في المرحلة المقبلة؛ فلا بد من العناية بالتعليم المتحفي اليوم سواء من خلال إدراج تلك الثقافة في المناهج الدراسية، وكذلك فتح تخصصات دراسيّة في مؤسسات التعليم العالي يمكنها تلبية الحاجات البشرية للمتحف والقادرة على التعامل مع مختلف محتوياته ومقتناياته بعناية. فهذا المكان يُنتظر أن يكون أحد المحطات الهامة الجاذبة للسياحة، ورافداً هاماً للباحثين والمهتمين بالتاريخ والتراث من داخل السلطنة وخارجها؛ فهذا المتحف لم يوجد ليكون رمزاً حضاريًا فحسب؛ بل منارة إشعاع معرفي وثقافي يدرك من يزورها أنّ تراث عمان في أمان!

Amal.shura@gmail .com

تعليق عبر الفيس بوك