باسم الدِّين

د. صالح الفهدي

سوَّغ البعضُ من الذين تحكموا في المنابرِ، أو تابعيهم الذين قدَّسوا النقلَ في مطلقهِ على العقل، لأنفسهم أنْ يتحدثوا باسم الإسلامِ، حتى جردوه في كثيرِ من المواضعِ من الرحمةِ، واللطفِ، والجمال، فغدا ديناً شحيحاً، أجلفاً، يبينُ في جفاوة وجوههم، وتقطيب أجبنتهم، وقساوة ألفاظهم، وسوء ظنهم بالآخرين به..! يتساءل عن هؤلاء د.عدنان إبراهيم بقوله: "لا أدري كيف يتعلمون، أين يتعلمون، ومن أي الجامعات يتخرجون، ماهذا المنطق؟!".

من المؤسف أن الدين أصبحَ رهيناً بنظرات مريضة للبعض ممن يزعم فَهْمَه المطلق للدين، لهذا فإن من يخالفُ قوله يتهمه بالفسق، أو العصيان، أو التكفير وهذه تهمة رائجة من اليسير إطلاقها في هذا الوقت دون تحفظ!! كل واحد منهم أغلقَ باب الدين وكأنما الدين قد ضاق عن الفهم إلا عن فهمه، وكالَ بمكياله فيما على المسلم فعله وقوله ولم يرضَ بغير ذلك..!!

لقد جعلوا الدين مجموعةً من التحريمات بينما الأصلُ في الدين الإباحة، حتى إنَّ العقل قد حار وارتبك..! فلم يعد المسلم واثقاً مما يفعل خوفاً من الوقوع في الحرام حتى في بديهيات الأمور، واستمع لأسئلة الفتوى تجد العجب!

باسم الدين أفتوا بضرب المرأة ومثَّلوها كالدابة التي يفترضُ ضربها لأنها لا تفهم!! الله الله بأي منطق جاؤوا، وكيف ابتدعوه والرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام لم يضرب زوجةً له قط وكن تسعا..!! بل أوصى بعدم ضربها قائلا: "لا تضربوا إماء الله" (سنن أبوداود). لقد أدلى هؤلاء بقولهم الفظ في موضع هو من أشد المواضع حساسية في الدين ولم يجدوا غضاضة في الخوض فيه بل وتقبيح المنظر، بدلًا من أن يجتهدوا في تشديد الامتناع عنه!! تمادوا فجعلوا المرأة سلعة يبيعونها ويشترونها، ثم يتكلمون عن حفظ الإسلام لحقوق المرأة..! يقول الحبيب علي الجفري: "مع مرور اليوم العالمي للمرأة.. آسف لمستوى خطاب الصَخَب الذي تحدثه أصوات غير ناضجة تتكلم باسم الدين تسيئ إليه قبل أن تسيء إلى المرأة".

باسم الدين تحكَّموا في البشر، فجعلوهم دمى في أياديهم يحركونهم كيفما شاؤوا، وأنى شاؤوا، إن أرادوهم أن يثوروا ضغطوا على زر الأمر فإذا بالشوارع تمتلأ بالبشر المساكين الذين وضعوا ثقتهم في رموزهم الدينية الذين قال عنهم أحد الأتباع: "نريد من علمائنا أن يوصلونا إلى الجنة وهم يريدون منا أن نوصلهم إلى السلطة"..! يتقاطر البشر على الساحات ولا يغادرونها، لأن ذلك "الرمز" لا يضغط على زر إلغاء الأمر لأنه لم يحصل على ما أراد..!! لهذا يموت من يموت ويحيا هؤلاء في أبراجهم أقوياء لأن أتباعهم يتوالدون فيرثوا الولاء لهم..!

باسم الدين يروِّجون للأفكار المتطرفة التي يدفعون بها الشباب إلى مواطن الاقتتال..! يغلظون عليهم في تشديد التحريم على توافه الأمور، ويسهلون عليهم تكفير وقتل إنسان بريء مسلماً كان أو غير مسلم..!! بينما يعيشون هم في أوطانهم معززين مكرمين يفرخون ذات الأفكار المتشددة فيخرجون بها أجيالاً أشد جلافةً وقساوةً من سابقيهك ويجوبون الأقطار داعينَ إلى الدين السمح، وإلى العقيدة المسالمة..!! كيف إذن تحاربُ التنظيمات المتطرفة وهؤلاء -وهم معينُ التطرف- طليقون، يرفهون أنفسهم، لا تنالهم شرارة مما أشعلوه من النيران..؟! لا يكاد العقل يصدقُ هذه المفارقات..!

باسم الدين يحللون ويحرمون، فما تطابقَ مع ميولهم أحلوه بل وأوجدوا له الرخص الشرعية مثل تعدد أشكال وأصناف الزواج، وما أرادوا تحريمه أوجدوا له التفاسيرَ التي تتوافق معه، بل واخترعوا الفتاوى أو حتى الأحاديث لتتوائم مع التحريم، وليكمموا بهذه الأحاديث الأفواه..!

باسم الدين يتزمتون لغيرما داع، ويتشددون لغيرما حاجة، حتى أصبح التسامحَ عندهم رجوعاً عن الحق، والعفو ضعفاً..! أخبرني أحد القضاة من رؤساء المحاكم قائلاً: "إن أصعب القضايا التي نواجهها هي التي يكون أحد أطرافها المتمظهرون دينياً فهم غير متسامحين، ولا متساهلين..!!" وإذا كان الكلامُ على ذمته فإن الشواهد في الواقع كثيرة، بل إن وجوهاً تتجسد أمامنا الآن لبعض المتمظهرين دينياً لكنهم يتسببون في أذى الناس بترصد دقيق جاعلين قدراً لتوافه الأمور، ومغالين في سخطهم، يؤذون جيرانهم، ويرفعون الدعاوى الكيدية على الناس ثم تراهم يصلون بالناس ويتحدثون عن سماحة الدين فأي دين هذا الذي يمارسونه وهو الذي أبان رسوله الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام دخول امرأة في النار لم تشفع لها عبادتها لأنها تؤذي جيرانها؟

باسم الدين يُصدرون أحكامَ قبول الله أو رفضه لعبادات الناس صلاة أو صوماً أو زكاة أو حجاً أو غيرها وهذا عينُ الاستعلاء، فمن ملك الحق كي يحكم على الناس بقبول الله لعمله إلا الله وحده..؟! أخبرني أحد العلماء بأن أحد هؤلاء الذين يتهمون الناس بغير علم قال له: إن فلاناً من الناس علماني (ويعني كافر)..! يقول فسألته: ما هو دليلك؟ قال: مظهرهُ يوحي بذلك..! يقول فرددتُ عليه قائلاً: لعلهُ أقربُ إلى الله مني ومنك..!!" فما أكثر هذا وأمثاله الذين يطلقون الأحكام جزافاً على الناس استكباراً منهم، واستعلاءً وهم لا يعلمون ما بين هؤلاء وبين ربهم..أفلا يتعلم هؤلاء من نبيهم الأكرم الذي قال لأسامة بن زيد حين قتل رجلاً نطق بالشهادتين وهو يظن أنه يريدُ أن يحمي نفسه بها: أشققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا"، ومثل ذلك ما قال لسيدنا عمر بن الخطاب في قصة حاطب بن أبي بلتعة..!!

باسم الدين أوَّلوا آيات الله بغير مقاصدها لتتناسبَ مع زيغ أهوائهم، فأبادوا أوطاناً بإسم الله، وقطعوا رقاباً بإسم الله، وشتتوا أبرياءَ، ودمروا بيوتا، وخربوا تراثاً، وسبوا حرات، وأكلوا أموالاً وكل ذلك بإسم الله والدين..! يقول الدكتور أسامة الأزهري عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر:" هناك فوضى معرفية لدي كثير ممن يتحدثون بإسم الدين حاليا. إن الأخذ بظاهر النص القراني أصبح سائدا و يجب ألا ينجرف المسلمون خلف ذلك". لقد قدم هؤلاء السنة النبوية على القرآن الكريم وهو مصدرُ التشريع، والكلام المحكم الذي لا تبدلَ في ألفاظه، ولا تغيرَ في آياته فهو محفوظ من رب العزة، لهذا كان التأويلُ أسهل، والتطويعُ أيسر لما نووا له، وقصدوا إليه من نيات ليست بريئة وقد كانت نتائجها على الإسلام مدمرة.

باسم الدين دعوا بالتدمير للكفار على رغم ما فعلوه لاستيعاب الموجات البشرية الهائلة من اللاجئين المسلمين الذين شردوهم من ديارهم، وعلى رغم إيوائهم لأولئك المقموعين في ديارهم، والمخرجين منها ظلماً وعدواناً..! فما هذه المفارقات الغريبة؟!

ما الفرق بين خطاب هؤلاء التدميرين باسم الدين وبين خطاب هولاكو حين دخل سوريا عام 1259، ثم وجه خطابه إلى حاكم مصر الملك المظفر سيف الدين قطز، وابتدأهُ قائلا: "باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء". ثم ختمه متوعداً بقوله: "إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه"..!

... إنَّ المصيبة في هؤلاء الناطقين باسم الدين دون علم منهم أنهم هم الذين جروا العواقب الوخام على الدين، وجلبوا المصائبَ الجسام على أهله، فأساؤوا له وجعلوا كل من أحب أن يعتنقه يتردد ألف مرة من سوء ما فعلوه بإسم الدين. يقول العلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "إنَّ انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم".. وهذا ما يحدثُ أيضاً في إلحاد بعض الشباب المسلم الذي شعر بالخديعة ممن يألبونهم ويحرضونهم بإسم الدين. إنها ثقافة تحتاجُ إلى تصويب بل إنها وحسب كلام الدكتور عدنان إبراهيم: "ثقافة مريضة يجب أن تنسف لتنشأ بدلا منها ثقافة أخرى وإلا بقينا نفرخ ونفرخ" على ذات النسق!

نعم.. إنها ثقافة مريضة سوَّغت لكل من ناعق أن يتحدث باسم الدين، والمصيبة الأكبر أن الذين يتبعهم الملايين في حساباتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي هم محرضون على العنف، ودافعون نحو الاقتتال، وناشرون للفتن، فأين يمكنُ أن تجدَ الأمة ضالتها ومأمنها، وفيمن يمكنها أن تثق بخطاب إسلامي معتدل، متزن، يسعى بأخلاقه، وتعامله، وعمله الحضاري، وتفاعله الإيجابي مع الحضارات أن ينشر سماحة الإسلام، ولطف الإسلام، ليجعل هذا الدين العظيم هو الذي يتحدث عن نفسه دون حاجة لإفرازات وسلالات الثقافة المريضة أن يتحدثوا باسم الدين!

يتحدَّثون باسم الدين والدين أسمى وأعظم، وأجل وأكرم من أن يتحدث عنهُ جاهل، أو حاقد، أو مريض نفسي، أو مستبد يتساوى هو والطغاة الذين يستبدون بالخلق، ويسومونهم سوء العذاب..! الدينُ لذاته صوت لكنه صوتُ الأخلاق الرفيعة، والقيم السامية، تسبقُ فيه الرحمة العذاب، والكرم الشح، والقسوة اللين، والحلال الحرام، وحسن الظن على سوئه.. أما هؤلاء فجعلوا القبائح في مقدمة الدين، ودفنوا المحاسن الجليلة التي فتحت القلوب قبل الأمصار إذ لم يدعُ التجار المسلمون السابقون الناس بأقوالهم وإنما دعوهم بأفعالهم. ولا يزالُ الدينُ غير آمن من هؤلاء ما لم يسوده الصوتُ المعتدل الذي يُظهِر محاسنه، ونقاءه، وسخاءه، ورحمته، وسلمه، ولطفه. هذا هو الدين الرحمة الذي أنزله الله وأرسل به نبيه المصطفى، قائلاً له: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً للْعَالَمينَ" (الأنبياء:107). هذا هو الدين وليس دينُ الجفاةُ القساةُ المستعلونُ.

تعليق عبر الفيس بوك