صندوق إبراء الذمة

د. سَيْف المعمري

 

أصبحتْ الذمَّة الإنسانية المعاصرة مُثقلة كثيرا بأخذ ما ليس لها من أموال ثابتة أو نقدية، ومن مناصب وامتيازات لا تستحقها، ويزداد تشوه هذه الذمة في البلدان العربية التي تعثرت فيها التنمية لعقود نتيجة الفساد المالي الذي طال مختلف فئات المجتمع، وساعد على ذلك عاملان على قدر كبير من الأهمية؛ هما: ضعف حكم القانون ودولة المؤسسات وعدم قدرتها على محاسبة الجميع الذين يستثمرون نفوذهم في تحقيق كثير من المكاسب على حساب المال العام. أما العامل الثاني، فهو: ضعف الضمير والوازع الديني في مجتمعات توصف بأنها متدينة، إلا أنَّ هذه التدين لم يحول دون هذا الجشع الإنساني الذي جعل المال العام مباحا يأخذ منه الجميع بأي وسيلة كانت، وأصبحت الغاية تبرر الوسيلة، وصار الاستثناء قاعدة، وأصبحت القاعدة استثناء، وغدت دول غنية بثرواتها في مهب الريح، تعمل بأقصى ما تستطيع لتدبير المال الذي يحفظ لها هيبتها من الإفلاس، ورفعت جميع المؤسسات لافتات "لا مزيد من الأموال لدينا" حتى نستمر كما كنا، ومن يتابع الجرائد في المنطقة يجد أخبار الفساد المالي تتصدر الصفحات الأولى، مما يقدم مؤشرا على مأزق كبير تمر به هذه المجتمعات التي تنبأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنها ستتكالب عليها الأمم في آخر الزمان: "...كما تتكالب الأكلة على قصعتها"، وحين سأل الصحابة رضوان الله عليهم: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل من كثرة، ولكنكم غثاء كغثاء السيل" (متفق عليه).

إن أصعب سؤال يمكن أن يطرح في المجتمعات الإسلامية، هو: هل المجتمع نزيه؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال باستقراء وضع المجتمعات المتقدمة التي حققت مؤشرات تنموية متقدمة، وحرصت على سد أية منافذ يمكن أن تخل بنزاهة المجتمع من خلال إيجاد مؤسسات وقوانين قوية ومستقلة لا تستثني أحدا أيًّا كان وضعه الوظيفي أو الاجتماعي من عملها، فالوطن فوق الجميع، والمال العام خطٌّ أحمر لا يمكن لأي من كان أن يأخذ منه دون حساب، ففي الشهر الماضي حكم على رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "يهود أولمرت" بالسجن نتيجة تلقيه رشوة أثناء رئاسته لبلدية القدس في العام 1993م، وقال عبارة مهمة قبل توجه للسجن: "أتقبل بقلب مثقل إدانتي، فلا أحد فوق القانون"، ومن أجل الحفاظ على هذه النزاهة حكم القانون السويدي على الوزيرة "مانا سالين" بسبب 60 دولارا موجودة في بطاقة صرف منحتها الحكومة لها؛ حيث قامت بملء خزان سيارتها الخاصة بعد الدوام الرسمي، ورغم أن الوزيرة أعادت المبلغ في اليوم التالي دون أن يطلب منها أحد ذلك، إلا أن القانون اعتبر تصرفها استغلالا للمال العام، ولا أعرف ما الذي سيقوله القانون السويدي بحق هؤلاء الذين يستخدمون عشرات المئات من السيارات الحكومية بعد الدوام الرسمي وفي الإجازات ويملأون خزانتها بأموال حكومية، ومظاهر استغلال المال العام لا تقتصر عند هذا المثال؛ فهناك مئات المظاهر التي ترتفع كلفتها، والتي تتطلب تبني مسارين لمعالجتها إمَّا عن طريق القانون أو عن طريق فتح فرص للضمير الإنساني لإبراء الذمة المالية.

... إنَّ إنشاء صندوق لإبراء الذمة يُمثِّل أحد المسارات المهمة في إعادة الأموال العامة التي أُخذت بدون وجه حق، ولقد باردت إحدى الدول في المنطقة بإنشاء هذا الصندوق، ووضعت له شعار هو "إذا شعرت أنك أخذت مالاً بغير حق، وتريد إرجاعه دون مساءلة، نحن نساعدك"، ولقد وجهت عوائد الصندوق للصرف على الأعمال الخيرية ومساعدة المحتاجين، كما يتم منها الإنفاق على الأرامل والايتام والمطلقات ومساعدة الشباب على الزواج، وتقوم فكرة الصندوق على فتح حسابات مصرفية في مختلف البنوك يودع فيها الناس الأموال التي أخذوها سرقة أو رشوة أو تسهيلات لإنجاز مهام غير قانونية أو مكافآت لا يجيزها القانون، أو عقود ومشتريات حكومية تمت المبالغة فيها أو غيرها من أشكال إساءة استغلال المال العام، ويتم الإيداع في هذه الحسابات دون ذكر أسماء من أجل تشجيع هؤلاء الذين استغلوا المال العام خلال فترات عملهم الرسمية أو خارجها على إبراء ذمتهم المالية، وكلما زاد عدد الأموال المودعة في هذا الصندوق، كان لدينا مؤشر على ارتفاع النزاهة في البلد، وارتفاع الإحساس بأهمية النزاهة يؤدي إلى تحقيق وفورات في الموازنة العامة، ويتيح أموالا يمكن أن تستثمر فيها مشاريع تنموية يعود صالحها للبلد.

قد يعتبر البعض هذا الصندوق فكرة مثالية جدا، وأن لا أحد سوف يودع فيه ريالاً لو تم المضي فيه، إلا أنني أتمنى بالفعل أن نضع مجتمعنا في هذا الاختبار الصعب، لأننا نحتاج إلى إنشاء هذا الصندوق لنطمئن على نزاهة مجتمعنا، ووعيه، وقدرته على تجسير الفجوة بين مبادئه الدينية وسلوكياته المالية في الحياة الواقعية، نحتاج إليه لنرى كيف يمكن أن ينتصر الإنسان على نزعاته الأنانية من أجل المساعدة في تحقيق العدالة الاجتماعية. وحين نملك مجتمعا نزيها ومؤسسات نزيهة سوف تحل كثير من الإشكاليات التي نعاني منها وتعيق تنميتنا. وحيث تقل النزعات نحو الاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل، وتتزايد النزعات نحو إعطاء الناس حقوقهم والحفاظ عليها، يضع المجتمع نفسه على طريق التقدم، لأن التقدم هو إيمان بالعدالة والتزاما بالنزاهة.