الإعلام

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (39)

د. صالح الفهدي

الإعلام

الإعلامُ ليس مجرد ناقل معلومة، أو وسيلة خبر، وإنما هو صانعُ مُجتمعات وحضارات، وباني مُستقبل، ومنشِئ أجيال، فإنْ لم يكن كذلك فهو وسيلة تدمير فكرية، وأداةُ خرابٍ حضارية..! من ينظرُ إلى الإعلامِ على أنه محضُ لهوٍ وترفيه، فهو لم يعِ إلا الجانب السوقي الغريزي للإعلام مديراً ظهره للجانب المشرق المشع الذي أقام به الإعلامُ دولاً، وأسس به أركانُ حضارات!

إنَّ وسائلَ الإعلام هي التي تتحكَّم في العقول، وتدير السياسات وتوجه الرأي العام، وهنا تكمُن قوتها وتأثيراتها إيجاباً أو سلباً.. يقول (Malcolm X): "وسائل الإعلام هي الكيان الأقوى على وجه الأرض. لديهم القدرة على جعل الأبرياء مذنبين وجعل المذنبين أبرياء، وهذه هي القوة لأنها تتحكم في عقول الجماهير".

وهي التي تقوي وجهة نظرٍ ما مهما كانت تلك الوجهة غير صائبة، إنما تعرضها بوسائل عدة لتظهر للناس وكأنها الحقيقة التي لا يشوبها الباطل..! يقول أمين معلوف في روايته "القرن الأول بعد بياتريس": "يتصور الناس في بعض الأحيان أنهم لمجرد أن يكون في مقدورهم الوصول إلى العديد من الصحف والقنوات التليفزيونية والإذاعية سوف يحصلون على وجهات نظر لا نهائية. ثم يكتشفون أنَّ الأمور ليست سوى المعاكس: قوة مُكبِّرات الصوت هذه تقع في تضخيم الرأي السائد فقط في وقتٍ معين، إلى درجة أنها تغطي أي رأي آخر".

ما لم يكن الإعلام دافعاً للتغيير الإيجابي، ومحفِّزاً نحو نمو الإنسان والأوطان، وقائداً للفتوحات الفكرية، ومانحاً لمفاتيح التقدم، فإنه لا يُعد إعلاماً يحملُ رسالةً ذات قيمةٍ يُعتد بها..! ما لم يلامس الإعلام قضايا المجتمع، ويسبرُ أغوارها، ويبحثُ في جذورها، ويعرضُ أسبابها، ويناقش حلولها فليس بإعلامٍ يستحق الالتفات نحوه!

هذا الأمرُ لن يتحقق أبداً إن لم يتصدَّ له إعلاميون يُدركون قيمة الإعلام البنَّاء في نهضة الدول وتطور الشعوب، وهؤلاء هم القيمة المضافة في حد ذاتها؛ لأنهم يستطيعون بحِسِّهم الفطري، وتوجههم المهني، وبُعدهم الفكري أن يقودوا أمماً إلى تحقيق أهدافٍ سامية. يقول الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مخاطباً الإعلاميين: "نحن بحاجة إلى إعلاميين مبدعين، بقدر حاجتنا إلى مهندسين وأطباء ومديرين مبدعين".. فكيف يمكنُ أن يأتي الإبداعُ ممن لا تربطه بالإعلام لا ناقةٌ ولا جمل؟! كيف يمكنُ لمن لا يفقه أبجديات الإعلام الذي يُضاهي العمل السياسي إن لم يفْقَه أن يصلح من حال المجتمع، ويرصد ظواهره، ويقوم علاته؟!

في جلسةٍ حضرها مجموعة من الصحفيين أجمعوا فيها على أنهم مجتهدون لا يسيرون وفق خطة واضحة ذات أهداف مع أنها قد تسير وفق مبادئ معينة، ومع أن المبادئ هي من الأهمية بمكان، إلا أن الأهداف الأساسية، والتوجهات المرحلية هي كالأحصنة التي تسيِّر العربات..! لهذا فإنهم يجتهدون ويثابرون كيفما اتفق وهذا ما يخلق التشويش والإرباك!

في الغرب يُطلق على الإعلام "الكلب المراقب" (Watch dog) كناية على مراقبته لأداء الحكومة ومؤسساتها من سوء الإدارة، والتلاعب بأموال الشعب..! لهذا فإنه قد استحق لقب "السلطة الرابعة" ذات النفوذ المؤثر. أذكرُ أنه أثناء الاستعداد للانتخابات الأخيرة التي تغلب فيها حزب المحافظين على العمال في إنجلترا، كان رئيس وزراء بريطانيا (Gordon Brown) قد التقى -في أحد الأحياء- امرأة إنجليزية في منتصف الستينيات لديها وجهات نظر في قضايا الهجرة والجريمة، وبعد أن ركب سيارته ظن أنه في مأمنٍ فنعتها بقوله إنها "امرأة متعصبة"، لكنه كان قد نَسِي الميكروفون الإذاعي مفتوحاً في بدلته فإذا به يفضح علانية ويضطر للعودة بعد نصف ساعة إلى ذات الحي ليمكث خمساً وأربعين دقيقة للاعتذار للمرأة..! لقد كانت هذه الكلمة إضافة مخلة في سجله الانتخابي استغلها الخصوم فأطاحوا بحكومة حزبه!

وفي الغرب أيضاً، رصد أحد المصورين وثيقة كانت في يد أحد ضباط الشرطة البريطانيين كُتِب عليها "سري"، فإذا بالإعلام يشتعل بسببها؛ إذ كان انزعاجه يتمحور حول كيفية الوثوق بأمن الوطن في الوقت الذي لا يحيط المؤتمنون مثل هذه الوثائق بالسرية الحازمة..! اضطر الضابط بعد هذه الانتقادات إلى الاستقالة..! وهكذا تمارس السلطة الرابعة أدوارها النافذة مع أنها أخذت بعداً لا يمكنُ قبوله في تعرضها للخصوصيات، وفي اقتحامها لحياة البشر، وفي شرائها لأسرارهم..!! فلا التراخي والتهاون الإعلامي يخدمُ قضايا الأوطان من جهة، ولا التهور والابتزاز يخدمها من جانبٍ آخر.. إنما الذي يخدمها هو الإعلام المعتدل، صاحب الصوت الوطني الخالص الذي لا يوالي صديقاً في مصلحة وطنية، ولا يناصرُ فاسداً في قضايا نصبٍ واحتيال. ذلك وحده الإعلام الخالص لكن أين مثل هذا الإعلام الذي لا تقوده التوجهات، ولا تديرهُ المصالح، ولا تملي عليه العلاقات؟!

... إنَّ قضايا مجتمعاتنا لتحتاجُ إلى إعلامٍ واعٍ أولاً بالأُسس التي تشكل هوية الأوطان، ثم بالتحديات التي تواجهها، وبعد ذلك بالتوجهات الناجعة التي تكفل الحفاظ على الهوية بتنميتها وليس بإبقائها جامدة، تسيرُ على نمطٍ تقليدي مكرور..! الإعلام الحقيقي هو الذي لا يتغافل عن القضايا التي تسبِّب إشكالياتٍ مجتمعية، ولا يمر عليها مروراً خاطفاً، ولا يزينها بالرتوش وهي على عكس ذلك، وإنما يقفُ إزاءها وقفةً مسؤولة، ذات عمقٍ وتدقيق، لأنه مرآة المجتمع، كما أنه في المقابل وسيلة المجتمع التي تكشفُ عن المعضلات التي يعانيها، أو المطامح التي يتطلعُ إليها.

لا يقتصرُ دورُ الإعلام على الاهتمام بحادثةٍ من الحوادث، أو قضية من القضايا بعد نشوئها، أو بروزها على السطح، وإنما يكمنُ دوره في الوقاية من حدوث المشكلات، وقرع أجراس الإنذار من وقوع الأخطار، والتحذير من توسع الظواهر واستفحالها إلى درجةٍ يستعصى إيجاد حل لها!

فإنْ أغفل الإعلام هذا الدور الحيوي فتلك مصيبة، لكن المصيبة الأدهى إن أدار دفة الإعلام من يرى أن الإعلام إنما هو إعلامُ الموضة، والصرعات البشرية، فيرفعُ شعار "هذا ما يريده الجمهور"، وهو شعار مخادع يُمرِّر من خلاله الذين يرفعونه أجندتهم الفكرية، وتوجهاتهم الشخصية التي لا تتوافق مع المصلحة الوطنية، ناهيكم عن منفعة الإنسان الطامح إلى النمو والتطوير!

لقد استطاع الإعلام أن يُطيح بقياداتٍ، ويُغيِّر حكومات، ويقلب قناعات، وهنا تكمُن قوة الآلة الإعلامية، التي تستخدمها الدول والمؤسسات بل والنافذين من أقطاب التجارة والإعلام الدولي مثل روبرت مردوخ الذي يقول: "سيصبح الإعلامُ مثل الوجبات السريعة.. يستهلكها الناس خلال حركتهم؛ حيث يشاهدون الإخبار، الرياضة والأفلام خلال السفر على أجهزتهم"، إن نفوذ فردٍ واحدٍ مثله يجعل تغريدة عن المسلمين ذات أثر؛ لأنه يمتلك وسائل إعلامٍ ذات نفوذ قوي؛ إذ يقول: "قد يكون معظم المسلمين مُسالمين، لكن يجب محاسبتهم حتى يُدركوا ويدمروا سرطان الإرهاب المستمر في النمو بينهم"! وفي المقابل: ما هي فاعلية الإعلام لدينا لكي يكون مؤثراً؟! يقول منتج فيلم بلال الكرتوني إن دراسة توضح أن فيلم "الرسالة" المنتج باللغة الإنجليزية قد تسبب في إسلام أكثر من عشرين ألف شخص، وهي دراسة موثقة لدى إحدى الجامعات الإنجليزية؛ الأمر الذي دفعه لإنتاج فيلم بلال بن رباح مؤذن الرسول -صلى الله عليه وسلم.

لقد حقَّقت "داعش" مكاسبها الكبيرة والصادمة بفعل قوة الإعلام لديها؛ إذ صدمتْ العالم بإخراجها السينمائي للمشاهد الواقعية المرعبة التي فاقت دولاً تمتلك وسائل إعلامية فاعلة، ولكنها لم تُسخِّرها من أجل الدفاع عن قضاياها، بينما استطاعت هذه الفئة المجرمة أن توظِّف الإعلامَ لاستقطاب الشباب من جميع أنحاء العالم بوسائل إعلامية شتى ألهبت مشاعرهم، ودغدغت أحاسيسهم، وأثارت حماستهم فدفعتهم للإسراع بالالتحاق بهذا التنظيم الأخطر في التاريخ!

وما لم يتصدَّ الإعلام إلى حملات التشويه التي تقصدُ تحطيم اللحمة الداخلية للأوطان، وغرس بذور الفتنة بين الشعوب فإن يعد إعلاماً سادراً يتقلب في أحلام الترفيه، والإغواء، ليصبح سبباً فيما آلت إليه غرناطة التي انشغل ملكها بالليالي الملاح، والسهر مع الجواري حتى الصباح!! الإعلام الواعي هو الذي يشكل سداً منيعاً يضاهي في قوته ومكنته الجيوش التي تذود عن حمى الأوطان، بل إنَّ الدور الوقائي والدفاعي للإعلام أهم من دور الجيوش التي تتحرك عند وقوع الأزمات..! إن أهمية هذا الدور تزداد مع زخم الإعلام البديل؛ إعلام وسائل التواصل الاجتماعي التي إما أنها تعتمد على الشائعات التي لا تصدرُ عن مصدرٍ موثوق، أو أنها تعيد نشر كل ما يقع تحت نظرها من غثٍّ وسمين..!!. إنَّ الخطر في كل هذه السيول المتلاحقة من الأفكار تبلبل الرأي العام وتشوش تفكيره إن لم توجهه إلى مذاهب غير محمودة فيها ضرر للهويات والأوطان!! ويصف (James Bryce) مؤلف كتاب "الديمقراطية العصرية" طبيعة الرأي العام بقوله: "الرأي العام يستخدم عموماً مجموع الآراء التي يتبعها الناس في الشؤون التي تؤثر في المجتمع أو تهمه. إنه أصنافٌ متنوعة من المعلومات المتناقضة والمعتقدات والأوهام والأفكار المبتسرة والتطلعات. إنه حائر ومفكك ويعوزه التبلور والتغير من يوم إلى يوم ومن أسبوع لآخر؛ لذا فإنَّ هناك علاقة ما بين طبيعة الجمهور والرأي العام".

ليس المطلوب من الإعلام التطبيل والمداراة على سبيل المصلحة الوطنية، ولكن في الوقت ذاته مطلوبٌ منه أن يتحلى بالمصداقية في النوايا، والمهنية في الأداء، والاحترافية في طرح الحقائق، وعرض القضايا. هكذا يخدم الإعلامُ الواقع تنمية وتطويراً، وكشفاً وتصحيحاً.

تعليق عبر الفيس بوك