"عقيدة أوباما" تستفيد من الخاصرة العربية الرخوة

عبيدلي العبيدلي

أثارتْ مُقابلة أوباما مع مجلة "أتلانتك" والتي حملت عنوان "عقيدة أوباما" الكثيرَ من الجدل لدى من مسَّتهم اتهاماته التي وجهها لهم. فقد استشاطت الصحف البريطانية والفرنسية غضبا عندما هاجم حليفيه الأوروبيين في سياسته الشرق أوسطية، رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي.. "معتبراً أن ليبيا غرقت في الفوضى، بسبب أن الأول كان مشتتاً ومشغولاً بأمور أخرى، في حين كان الثاني يريد التباهي بنجاحاته في الحملة الجوية، مقراً بأن دعمه لتدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا كان خطأً".

وعلى نحو موازٍ، تهجَّم أوباما -دونما أي حق- على المملكة العربية السعودية عندما أشار إلى أن "هناك دولا فشلت في توفير الرخاء والفرص لشعوبها، (مضيفا) هناك أيديولوجيا عنيفة ومتطرفة أو أيديولوجيات تنشر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي... هناك دول فيها القليل جداً من العادات المدنية، وبالتالي حين تبدأ الأنظمة الشمولية بالتداعي، فإن المبادئ المنظمة الوحيدة الموجودة تكون الطائفية". وكان أوباما قد صرح في وقت سابق بأن "تحول إندونيسيا إلى دولة إرهابية، (مصدره من وجهة نظره) السعودية وغيرها من الدول الخليجية (التي حسبما يقول أوباما) ترسل الأموال وعدداً كبيراً من الأئمة والمدرّسين (الإسلاميين) إلى البلد، (مضيفا) في العام 1990، موّلت السعودية المدارس الوهابية بشكل كبير، وأقامت دورات لتدريس الرؤية المتطرفة للإسلام، والمفضّلة لدى العائلة المالكة".

في البدء، لا بد من الإشارة إلى أنَّ أيًّا من الدول العربية التي أشار لها أوباما، بما فيها السعودية، لم تغير سياستها الخارجية منذ ما يزيد على النصف قرن، وخلال هذه الفترة، بما فيها الحقبة التي كان فيها أوباما في الإدارة الأمريكية لم تصدر عنه مثل هذه الاتهامات، وعليه -وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة ما يدعيه أوباما- فقد كان من المفترض أن يفصح عن هذا الموقف "الراديكالي" عندما وصل إلى سدة الرئاسة، وليس وهو في طريقه إلى مغادرتها.

وعلى أنه بعيد عن تلك الملاحظة، تحمل هذه المقابلة أوجها كثيرة، وربما تكون القراءة الأكثر شمولية وعمقا لها هي تلك التي تتحاشى الانجراف نحو التفاصيل الجزئية، ذات المستوى التكتيكي، والتركيز على الرؤية الإستراتيجية التي تقرأ مثل هذه "العقيدة الأوبامية"، على أنها بمثابة تحول نوعي في السياسة الخارجية الأمريكية التي تلهث وراءها واشنطن كي يتسنى لها إعادة مرتكزاتها، خاصة في الشرق الأوسط، انطلاقا من التحولات التي أفرزتها الأحداث التي عرفتها المنطقة، وفي المقدمة منها، ذلك التراجع النوعي في الثقل العربي في موازين القوى الشرق أوسطية.

فعلى الصعيد السياسي، يفتقد العرب اليوم زعامة قومية، كالتي عرفوها إبان الحقبة الناصرية خلال النصف الثاني من خمسينيات، والسنوات الأولى من العقد السادس من القرن الماضي، حينما كانت الناصرية تتبوأ هذا المقعد، إن لم يكن بشكل مطلق على المستوى الرسمي، فقد كانت بامتياز على النطاق الشعبي الجماهيري. وفي مرحلة لاحقة مارست السعودية تحت قيادة الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز، وإن كان ذلك بمستو أقل، دورا مماثلا. تفتقد الكتلة العربية لمثل هذه القيادات العملاقة، وعوضا عنها انبرت بعض القيادات التي تفتقد إلى المؤهلات الفردية، ناهيك عن الثقل السياسي الذي تستمده من المكانة التي تتمتع بها الدولة المعنية.

يتضافر ذلك سلبا مع التمزُّق القطري الداخلي الذي تعاني منه الدول العربية الكبرى مثل مصر والعراق وسوريا، بل وحتى دولة صغيرة من حجم لبنان. مثل هذا التشظي أرغم كل من هذه الدول الانكفاء نحو الداخل، واللهث المتواصل نحو إيجاد حلولا لمشاكلها الداخلية؛ الأمر الذي أفقدها القدرة على -ومعها الرغبة في- الالتفات نحو قضايا الأمة الكبرى. ولعل التراجع الذي باتت تعاني منه القضية الفلسطينية، التي فقدت موقعها المتقدم في درجات سلم أولويات القضايا العربية فيه الكثير من المؤشرات التي ينبغي أن يعاد النظر فيها، والدروس التي يمكن الاستفادة منها على هذا الصعيد.

يزداد الأمر ترديا عندما يضاف إلى المعادلة العامل الاقتصادي. وهنا لا بد من الإشارة إلى الوهن الذي يعاني منه الاقتصاد العربي ككتلة جغرافية/سياسية من جانب، وعلى مستوى كل قطر منها على حدة. كما ينبغي التنويه إلى ان هذا الضعف ظاهرة بنيوية، وقديمة أيضا، وبحاجة إلى معالجة جذرية، وليس، كما يحاول البعض أن يتستر عليها فيصورها أنها وليدة التراجع إلى عرفته أسعار برميل المنفط مؤخرا.

وتأسيسا على ذلك يمكن قراءة تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما على أنها محصلة ثلاثة عوامل رئيسة: الأول منها مصدره عناصر الضعف التي باتت تنخر الإدارة الأمريكية، والتي باتت تنعكس سلبا وبشكل ملحوظ على سياساتها الخارجية، وأكثر ما يعبر عنها ذلك الخلاف المتصاعد الذي تحدثت عنه الكثير من وسائل الإعلام بين أوباما ووزير خارجيته جون كيري. أما الثاني فهو بروز إيران كقوة إقليمية متنامية تبحث عن دور رئيس، ومكانة مميزة عن نظيراتها من دول الشرق الأوسط الأخرى، بما فيها أي من الدول العربية، وتركيا، والكيان الصهيوني. وهناك بعض النجاحات الملوسة التي حققتها طهران مؤخرا على هذه الطريق، تمثلت في رفع الحجر عنها، والموافقة الضمنية على مشروعها النووي. وثالث تلك العوامل، هو الضعف العربي الذي أشرنا له أعلاه.

تغيير هذه المعادلة، ولصالح الطرف العربي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تغيير موازين القوى الشرق أوسطية لصالح ها الأخير، وفي حال تعر ذلك، سيستمر العرب في الخاصرة الرخوة التي تتلقى الضربات، ويدفع أصحابها الثمن عند أي تغيير في الخارطة الجيو-سياسية لهذه المنطقة. وهذا ما حاولت أن تستفيد منه "عقيدة أوباما".

تعليق عبر الفيس بوك