رعب المطر!!

إضاءة

مسعود الحمداني

يأتي المطر محمّلا بالبشارات، يطهّر الأرض من ذنوبها، ويغسلها من قذارات الأيام المتراكمة، تنزل قطرة الماء من السماء فتهتز الكائنات، وتنثر بذرة الحياة على الصحراء القاحلة، فتحولها حقولا يانعة، تسقي بها الأفئدة والقلوب..هكذا هو المشهد في كامل بهائه، وهذا هو ما يجب أن يبدو عليه عند كل نبأ بغيثٍ قادم.. غير أنّ الصورة لم تعد كما هي.. تغيّرت نظرتنا للمطر، كما تغيّرت رؤيتنا للحياة..

قبل سنوات.. خرجتُ من المنزل باكرا ذات (منخفض جويّ) ـ وهي العبارة التي تحذر من خطر قادم من السماء ـ كان المطر خفيفًا، وبعض أودية الباطنة تلفظ آخر أنفاسها، ومنسوب جريانها يتراجع، والسحب المرابطة في السماء تكاد تنقشع، كان الطقس عاديا، بل ومشجعا لمزيد من النشاط، والحركة، غير أنّ المذيع، كان يقول غير ذلك، وكانت الأرصاد الجوية ترى ما لا أرى، وتحذّر، وتكرر التحذير، وتنذر من أمطار قوية، ورياح رعدية، وكأنّ كارثة ستحل عمّا قريب.. وبين ما أراه وما أسمعه.. قررتُ أن أذعن لصوت التحذير، وأعود أدراجي إلى المنزل، رغم أن ليس ثمّة ما يدعو للقلق، ولكن الأرصاد تعرف ما لا نعرفه.

وانتظرت ساعات وساعات تحسبا لأي طارئ، غير أنّ المطر كان أكثر إغراء وواقعية من تحذيرات الأرصاد، وضاع يوم جميل، دون مبرر، وكنتُ في تلك الأثناء أتصل بأحد الأصدقاء في الشرقية لأسأله عن الأحوال هناك، فأسمعه مشغولا في (العزبة) مع (البوش)، يهيئ لها المكان، الذي يحميها من (السيل)، ويضع لها العلف الذي يكفيها لأربعة أيام قادمة، فقد لا يراها خلال تلك الفترة، أخبرته بأن الشرقية بعيدة عن المنخفض الجوي، فيجيبني بالمثل العماني: (إذا شفت جارك تحسّن بِلّ راسك).. بمعنى أنّ المطر قادم لا محالة.

تساءلتُ وسط ذلك الضجيج، وذلك الجو المرعب الذي تسببت به تلك التهويلات، وذلك البث التلفزيوني المباشر بتلك الصورة المبالغ فيها، وكأننا بانتظار كارثة ـ لا سمح الله ـ تساءلتُ: هل أصبح المطر مرعبا لهذه الدرجة؟!!..لماذا أصبح الناس يتوقعون الشر مع كل منخفض جويّ؟!!..وهل أصبحت (الرحمة) ـ كما يطلق عليها العمانيون ـ مصدر خوف ورعب؟.. خاصة إذا كنّا ننتظرها كانتظار (الفقير لخبز العيد) ـ كما يقال ـ ثمّ إذا ما بدأت تباشير المطر أطلقنا أبواق الإنذارات في الشوارع وكأنّ خطرًا داهمًا على وشك الوصول.

كان الناس في ما مضى يحتفون بهذا الزائر الطيفيّ الجميل بما يليق ببهاء وصوله، وكان الأطفال والكبار يخرجون مبتهجين في ساحات القرى، ووسط المزارع، يركلون حبّاته المتساقطة، ويطوفون على أصدقائهم، فالمطر بالنسبة لهم عيد يستحق الفرح، فما الذي تغيّر الآن؟!!..ما الذي يجعلنا نزرع الرعب في قلوب البشر بدلا من زرع الأمل والحب والتفاؤل؟..ما الذي حوّل نظرتنا للجمال إلى نظرة شك وريبة؟!!.. ربما كان التحذير من الأودية شيئًا واردًا بل وضروريا لأنّ المتهورين كثيرون، ولكن لا يجب أن يكون هؤلاء المتهورون هم القاعدة التي تنزع البشارة والفرحة والمتعة من الآخرين.

غير أنّ الواقع يقول أنّه لا يمر منخفض جوي إلا ويجرف معه بعض الأرواح التي لم تأبه لخطورة الوادي، وظنّت أنه مجرد مجرى ماءٍ عاديٍّ يمكن اجتيازه بسيارة دفع رباعي جديدة، وهم يجهلون أنّ للوادي قدرة على سحب حافلات تزن عشرات الأطنان دون عناء.. لذلك لا يمر مطر أو وادٍ دون أن نسمع بوفيات لشباب تصرفوا برعونة، ورغم ذلك لا نملك إلا الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة.. ونسأل لمن يأتي بعدهم بالهداية.

ومن جانب آخر فإنّ رجال شرطة عمان السلطانية، ورجال الهيئة العامة للدفاع المدني يبذلون أرواحهم أحيانا في سبيل إنقاذ أرواحٍ أخرى.. فشكرًا لجهودهم من القلب.. ولعلهم أكثر الأشخاص الذين لا يستمتعون بأجواء المطر وجمال الطبيعة لأنّهم عيون تراقب سلامة غيرهم حتى لا يعرضون حياتهم للخطر.

ما المطر إلا خير في كل حالاته، ولكن هم النّاس الذين يمكن أن يحوّلوه إلى فرحة تطهّر النفوس المتعبة، أو أن يحوّلوه بتصرفاتهم وتهوّرهم إلى مأساة لا تبقي للاحتفال به نصيبا.

Samawat2004@live.com

تعليق عبر الفيس بوك