"بلترة" العمل الذهني أحد أسباب انحطاط الرأسمالية

عبيدلي العبيدلي

قبل أيام، تناقلت المواقع الإلكترونية لبعض الفضائيات، على استحياء، أخبار وقوع "مئات الأطفال ضحية لاعتداءات جنسية من قبل حوالي 50 قسيسا". جاء ذلك في تقرير "كشفت عنه مؤخرا هيئة محلفين عليا في ولاية بنسلفانيا الأمريكية". ويأتي التقرير، عقب إصدار محكمة في ولاية بنسلفانيا حكما بالسجن لأكثر من 16 عاما على قسّ كاثوليكي أدين بالاعتداء جنسيا على أطفال يعيشون في مركز إيواء في هندوراس، إلا أنّ أساقفة تستروا على العديد من الحالات الأخرى المماثلة التي بقيت دون محاكمة".

لم يعد ما يجري اليوم في الولايات خصوصا، والغرب عموما من حالات اغتصاب يذهب ضحيتها الأطفال والنساء ظواهر استثنائية سواء من حيث وتيرة تكرارها، أو بشاعة تنفيذها، أو عدد المتضررين منها. فوفقا للإحصاءات الرسمية التي تنشرها العديد من المراكز التي تقتفي آثار هؤلاء المجرمين، "أن واحدة من كل ثلاث فتيات في سن 14 سنة معرضة للاغتصاب، ويوجد بأمريكا نصف مليون عملية اغتصاب سنويا، وأنّ 61% من البنات الأمريكيات فقدن بكارتهن قبل سن 12 سنة".

وفي إحصائية أخرى أنه في أمريكا "نسبة إمكان اغتصاب المرأة ما بين واحدة إلى خمس والتقديرات المحافظة، واحدة إلى سبع، أي أنه من بين كل (خمس نساء) إلى (سبع نساء) تكون إحداهن تعرضت للاغتصاب، أو ستتعرض له في حياتها".

في هذا الصدد يؤكد كتاب الإحصاء الوطني الأمريكي الصادر في العام 1997 عن إدارة الاقتصاد والإحصاء في مصلحة التجارة الأمريكي، على أنّ هناك حوالى78 حالة اغتصاب كل ساعة في أمريكا. وفي كل دقيقة في الولايات المتحدة الأمريكية، هنالك 1.3 حالة اغتصاب لنساء بالغات، وتغتصب 78 امرأة في كل ساعة في الولايات المتحدة الأمريكية وهكذا في كل يوم هنالك 1871 امرأة بالغة تغتصب في أمريكا أي ما يعادل 56916 امرأة شهريا.

الأسوأ من ذلك، وهو ما يدفع المراقب إلى القول إنّ تلك الحوادث ليست استثناءات على كل المستويات، هو ما تؤكده دراسات أعدتها مراكز أمريكية رصينة بأنّ "90% من كل حالات الاغتصاب يخطط لها سابقاً؛ ففي 87% من حالات الاغتصاب إما أن يحمل المعتدي سلاحاً أو يهدد الضحية بالموت إذا قاومته".

تلك النماذج الإحصائية التي تعود أرقامها إلى نهايات القرن العشرين، تزداد ترديا، حيث لم يعد الانتهاك الأمريكي للقيم الإنسانية محصورا في حدود الولايات المتحدة، بل جرى تصديره للبلدان التي احتلتها القوات الأمريكية تحت مسميات مختلفة. ففي أواخر العام 2015، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرا يتحدث عن "أوامر صدرت للقوات الامريكية في افغانستان بتجاهل اغتصاب الأولاد من قبل القادة العسكريين الافغان جنسيًا على الأطفال في القواعد العسكرية. حتى عندما تقع هذه الاعتداءات في القواعد العسكرية التي يتواجد فيها الأمريكان".

وليست الولايات المتحدة هي الدولة الرأسمالية الوحيدة التي تتمظهر فيها سمات انحطاط الرأسمالية، ففي أواخر العام 2015 أيضا نشر موقع محطة "يورو نيوز" الفضائية خبرًا حول قرار بريطانيا تشكيل فريق من المتخصصين تشرف عليهم القاضية لويل غودار أنيطت به مهمة التحري حول "قضايا الاعتداء الجنسي على آلاف الأطفال". الملفت هنا أنّ غودار "سارعت إلى التنبيه بأنها لن تستثني أحدًا مهما علت مرتبته الاجتماعية أو السياسية، بما في ذلك داخل الهيئة التشريعية والمؤسسات الأمنية وفي الكنيستين الكاثوليكية والأنغليكانية، محذرة فور قبولها بهذا المنصب من أن الاعتداءات الجنسية على الأطفال داخل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أصبحت تشكل موضوع انشغال وطني ودولي منذ عدة أعوام. وتشير التقديرات الصادرة عن مؤسسات بريطانية ذات علاقة أنّ هذه المهمة قد تحتاج إلى خمسة أعوام على الأقل وإلى ثمانية عشر مليون جنيه بريطاني، وهي تهدد بفضح شخصيات عالية في البلاد وفي جميع المستويات، بما فيها الدينية والسياسية والثقافية.

وفي الفترة ذاتها، وفي فرنسا على وجه التحديد، تناقلت وسائل الإعلام ما جاء على لسان عاملين في مجال الإغاثة من أنّ بعض الصبية في سن المراهقة تعرضوا للاغتصاب في غابة كاليه التي تضم مخيما للاجئين في البلدة الواقعة في الشمال الفرنسي. وذكر عمال في الإغاثة بمخيم كاليه إنهم عالجوا 7 صبية عمرهم بين 14 و16 عامًا خلال الأشهر الستة الماضية، وقد اعترف هؤلاء الأطفال بتعرضهم للاغتصاب، وبانت على أجسادهم إصابات متعددة تؤكد ما قالوه".

وفي السياق ذاته حذرت وكالة إنفاذ القانون في الاتحاد الأوروبي (يوروبول)، من أن آلاف الأطفال اللاجئين غير المصحوبين بآبائهم عرضة للاستغلال الجنسي. وإن حوالي 10 آلاف قاصر بين اللاجئين اختفوا في أوروبا.

مثل هذا السلوك غير الإنساني، يكشف في جوهره مظهرا من مظاهر توحش الرأسمالية الغربية، وفي المقدمة منها الأمريكية، ويبشر بانحطاطها. وقد شخص الباحث الاشتراكي إرنست مندل أسباب هذه الاتجاه الانحطاطي البنيوي للرأسمالية في أهم أسبابه بالقول، لن نتطرق هنا سوى إلى إحدى أوجه انحطاط نمط الإنتاج الرأسمالي على المستوى العالمي: أزمة علاقات الإنتاج الرأسمالية وبخاصة التناقضات المتنامية الناتجة عن بلترة (مشتق من تعبير Proletarization) العمل الذهني. فقد خلف أفول الرأسمالية، على المستوى التاريخي، ظاهرتين أساسيتين ومتكاملتين لعصرنا: العجز عن تطوير ما يسمى العالم الثالث والعجز عن إدماج متناسق وبناء للعمل الذهني، أي للعلم، في سيرورة الإنتاج على وجه يفيد البشرية. "

وفي سعيها المستمر لتجميل صورتها البشعة لا تكف الرأسمالية عن وضع المساحيق التي تتوهم أنها ستنجح في إخفاء بعض مظاهر الانحطاط التي ترافق سلوكياتها، وليس اغتصاب النساء، والاعتداء على الأطفال سوى الجزء الصغير البارز منها. ولذلك كلما أمعنت الرأسمالية في توحشها، كلما تراجعت قدرة تلك المساحيق على تمويه سلوكياتها المتوحشة، الأمر الذي ينذر بانحطاط الرأسمالية، ومن ثم تدهورها.

تعليق عبر الفيس بوك