طفولة تكبر في (مسعى)

عهود الأشخرية

مدخل:

وأنا أيضًا يا محمد النبهان لا بدّ من أن هذا المقطع ينطبق عليّ الآن، هذه اللحظة التي تندفق فيها الذكريات أمام عينيّ أو ربما في قلبي "تشعر داخلك بشيء على أهبة الانفجار. لقد اتخذت تعاستك الآن شكلا، تحولت قنبلة ستنفجر، ستجعلك تنفجر؛ يتخلّع صدرك. مثل منزل قديم.. ما هم إن تداعت المنازل الفارغة".

الاقتباس لمحمد النبهان من ديوان (حكاية الرجل العجوز)

...

في طفولتي، كنت أُدهش والدي في سرعة تعلمي للأشياء الجديدة، بداية من تعلمي للحروف الأبجدية إلى أن انتقلت إلى مراحل أعلى وهي قراءة كتب تكبرني بعدة سنوات، الكتب التي يغطيها الغبار في مكتبة بيتنا، والتي لم أعد ألتفت إليها الآن. لا زلت أتذكر أول كتاب وصلني هدية من والدي؛ الأدق أنّها مجموعة قصص الأنبياء للأطفال، المجموعة الملونة والتي تحتوي على 12 جزءا، ولا زلت أتذكر أيضا أنني لم أستغرق وقتا كبيرا في قراءتها ثم ضمّها للمكتبة الحزينة ربما من الهجران الطويل، حين صرت في الصف الثالث اشترى لي والدي مجموعة من الروايات باللغة الإنجليزية، كنت أجد صعوبة حقيقية في قراءتها لكنني أجتهد بترجمة الكلمات ثم أعود مجددًا لمحاولة الفهم، وإذا ما يئست أعيد قراءتها باللغة العربية. وأتذكّر أيضا الرحلة الأولى إلى معرض الكتاب، حين كنت في الصف الثامن، ولم أكن لذلك الوقت أزور مسقط كثيرا، لأنه ليس ثمة أمر يربطي بها ولم أكن أتخيل أنني سأعيش فيها يوما وستصبح مكان لعزلتي وبكائي وشغفي في الحياة والموت، البحر، السينما، الشعر، الكتب، رسم طرق كثيرة إلى الزرقة البكر.. في تلك الرحلة كانت الدهشة لا تزال مُلونة حين نعبر كل تلك الشوارع والأضواء، وحين دخلت المعرض سرقني كل شيء.. كل شيء كان يتدفق في الروح مثل نهر سريع لكنه عليل وحنون..

اعذروني على هذه الذكريات التي تأتي كريح في هذه اللحظة، ريح من شأنها أن تقطع كل أزهار القلب وتأخذها لمكان مجهول، لكنّها تزورني دائما في مساء حزين لكن هذه المرة مساء ممطر ولا بأس بأن يكون حزينا أيضا.

قبل أيام انتهى معرض الكتاب، وذهبت معه الكثير من الصور والسماوات المؤجلة إلى مصير جديد، وكانت مسعى وككل عام النجمة المضيئة طوال الوقت، وكأن ثمة شيء يجذبنا إليها في كل لحظة، لا نغادر منه ساعة إلا نعود للمكان ذاته، ملتصقين بالكتب والقصائد المحلّقة في ذلك الفضاء والضحكات التي لا تنتهي، وأحاديث الكتب، ودهشة الإصدارات الجديدة، والوجوه الجديدة والوجوه القديمة والدائمة أيضا.

تجربة وجودي في دار مسعى هذه السنة بشكل مستمر أضافت لي الكثير من الرؤى الجديدة وتوغلتُ في الضوء أكثر، وكأن فكرة معرض الكتاب الملتصقة بي منذ زمن توجد هنا فقط، هذه الزاوية التي رأيت بها حلم الطفلة يتشكل في الواقع، الطفلة التي حلمت بمكتبة كبيرة للقراءة وفيها الكثير من الخيارات حين كانت تجلس في مركز مصادر التعلم وتقرأ تلك القصص التي حفظتها من كثرة من تكررت في لحظاتها، الطفلة التي كانت تتمنى أن تكون هنالك مكتبة صغيرة في قريتها على الأقل حين يئست من فكرة وجود مكتبة كبيرة، مكتبة يمكن أن تضمّ بها الكثير من أحلام الأطفال أيضا. فوحدها الطفولة كانت تنشر أحلامي الخاصة على حبل الغسيل ومسعى الآن هي الضوء والدفء الذي يأخذ بها إلى أمل الوصول في طريق مليء بألوان الطيف، والتي يمكن أن تعود الأيام بها أكثر خضرة وبهاء.

هذه اللحظة تماما يأتي صوت فيروز من مكان ما وهي تغني "يا سنين االلي رحتي ارجعي لي.. ارجعي لي شي مرة ارجعي لي.. وانسيني ع باب الطفولة"، وأنا في زحام هذه الذكريات والأمنيات ومحاولات الوقوف على وتر الكلمة الأولى، أشياء كثيرة لا يمكنني أن أنساها بعد هذه التجربة، وأشياء أخرى لا بد لي من تركها على الهامش؛ لأنّ الهامش هو مكانها الصحيح، وأشياء أخرى يجب أن تركل بعيدا بعيدا عن الذاكرة.

شكرًا لمعرض الكتاب، لدار مسعى تحديدا، شكرا للوجوه الجديدة والأحلام االقديمة، شكرا للحياة الإلكترونية التي يمكن أن تتحول لحقيقية في لحظة واحدة، ولصخب الكتب الذي لا ينتهي، شكرا لحفلات التوقيع التعيسة، والأطفال الملونين بالمعرفة، والآباء الذي يشبهون أبي، والآباء الذين يشبهون الأمنيات، والفصول الجديدة التي ستضاف إلى هذه الحكاية.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك