مجلس التعاون وحزب الله.. المغزى والتداعيات

علي بن مسعود المعشني

أثار قرار دول مجلس التعاون الخليجي باعتبار حزب الله منظمة إرهابية الكثير من الفضول الإعلامي والسياسي والشعبي في منطقة الخليج أكثر من غيرها، وأفرز ذلك الفضول بطبيعة الحال كان عبارة عن أسئلة من العيار الثقيل في توقيت القرار ومغزاه وأبعاده وتداعياته المستقبلية. فهذا القرار رغم غرابته وسطحيته وعدم منطقيته وواقعيته، إلا أنّه أصبح في عداد مدونات مراحل التاريخ السياسي لأقطار الخليج، سوا اتخذ بوعي أم في حالة غيبوبة حتى وإن غُلف بصورة المشروع العربي.

ففصول الربيع لم تطوَ بعد ولم تغب عن ذهن أبسط البسطاء العرب في زماننا مظاهر العنتريات والمراهقات وقلب الحقائق وإحقاق الباطل بكل جسارة من قبل البعض لخرق المواثيق وتمكين مبتغاه بأي ثمن وتخطي أبسط القواعد السياسة والأخلاقية وضرورات التضامن العربي والأمن العربي أحلامه.

فمنذ رأينا بيت العرب المتمثل بالجامعة العربية تناشد الغرب وتلوذ بمجلس الأمن لتطبيق البند السابع على أقطار عربية بقصد تدميرها والتنكيل بها، لم يعد هناك مستحيل أو محرمات في السياسة العربية المعاصرة، حين يصر بعض العرب على قضم المزيد من أطرافهم وتقديمها كقرابين للسيد الغربي لنيل رضاه وكي يُذكر في التاريخ معه كحليف أو تابع أو قاصر فكل هذا غير مهم لديهم، فيزيد الضعف وهنًا والفرقة شتاتًا والنفور خصومة. جميع تلك السقطات السياسية والخطايا مدونة في التاريخ والذاكرة وتمثل استحقاقات سياسية عظيمة على أقطار التعاون بالدرجة الأولى ومن سار في فلكها خوفًا وطمعًا بلاشك ، وتلك الاستحقاقات لا تسقط بالتقادم ولا تفنى من ذاكرة الأجيال رغم إرهاقها وتشتيت بوصلتها بكل تداعيات وأعراض أزمنة الوهن والشتات، ولكن قرار تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية من قبل هؤلاء السائحون في رحاب السياسة، سيشكل مفصلًا تاريخيًا في تاريخهم وتاريخ هذه الأمة المكلومة بعقوق أبنائها وضراوة أعداءها، حيث تعدى الأمر المعصية الفردية و"إذا بُليتم فأستتروا" إلى مرحلة الجهر بها وإعلان الحرب على الله.

هم بلا شك يعلمون بأهداف قرارهم ولكنهم يستحيل عليهم أو على غيرهم مجرد التكهن بنتائج هذا القرار، حتى وإن سلمنا بأنه قرار خليجي بامتياز وشبيه بقرارات مجلس التعاون المجمدة في الأدراج لثلاثة عقود ونصف دون تنفيذ أو تفعيل رغم بساطتها وواقعيتها وضروريتها لأبناء الخليج وأقطاره. فهكذا قرار لابد أن ترافقه حزمة من الإجراءات لتفعيله وتمكينه من تحقيق أهدافه والنتائج المرجوة منه، وهنا مكمن الخطر ولب المأساة المرتقبة.

من يمعن النظر في المشهد العربي المعاصر وتحديدًا منذ حقبة الثمانينيات من القرن المنصرم، لابد أن تشغله التناقضات والأضداد في الوطن العربي، فالمناهج التعليمية تتحدث عن نكبة فلسطين، والخطابين السياسي والإعلامي يغردان بسلام مع المغتصب بطعم الاستسلام وأعراضه، والمؤسسات العسكرية والأمنية العربية العميقة عقيدتها القتالية وفهمها للأمن القومي العربي وبوصلتها القدس ومكافحة الاستعمار ومقاومته فيما الساسة يتحدثون عن التطبيع (رغم بوار تجربتي كامب ديفيد ووادي عربة وإفلاسهما على أرض الواقع) بزعم الواقعية السياسية كي يهربوا من "الوقوعية" السياسية التي تطاردهم كالكوابيس، والدساتير في الأقطار العربية تتحدث بجلاء وقداسة عن الثوابت وعلى رأسها العروبة والعربية والإسلام والشريعة، بينما التغريب والتعجيم والاقتطاع من الدين هي سيدة المراحل والأزمنة. وجميعها وصفات جاهزة وقاتلة للانقضاض على الدولة أو تشكيل حكومات ظل فاعلة موازية لها ومشروعية صراع الأجيال بشيء من العنفية لغياب الإنسجام وسلمية التعايش والتداول.

إرهاصات عقود الخيبات أخرجت من رحمها عكس المتوقع وهو بدائل شعبية لنظم الحكم المهترئة والهاربة إلى الأمام من مواجهة استحقاقاتها في الداخل والخارج، وأبرز تلك البدائل هي مظاهر المقاومة الوطنية والتي تعاظمت كقوة مسلحة وتجذرت ونمت كثقافة وسلوك حتى أصبحت حكومات ظل بكل المقاييس.

لأول مرة في التاريخ البشري توجد مقاومة شعبية مسلحة في ظل وجود الدولة ومؤسساتها لسد القصور والخلل فيها، دون تصادم أو ضدية مع مؤسسات الدولة وهياكلها التنظيمية، ما لم تُستفز أو تتعرض لخطر زوالها، حيث لم تعد تلك المقاومة مظاهر مشتتة وفصائل تعمل في جنح الظلام، بل أضحت كيانات ودول ومنظومات إعلام وفكر وثقافة عابرة للحدود والأجيال، والأهم من كل ذلك وهو تمثيلها للضمير العربي والمزاج الشعبي العربي المكبوت منذ عقود والمتطلع للانعتاق من التبعية والتحرر ومظاهر الظلم واسترداد الهوية والهوى والحق العربيين. ومن يراهن على إعادة عقارب الزمن للخلف فهو في وهم كبير. فالكبار في زمن المقاومة لم يعودوا هم من يصنعون الأحداث ويديرونها ويقتطعون الغنائم في المنطقة، بل أصبحوا زبناء لدى من يفرض سيطرته على الميدان ويرسم الواقع لينالوا نصيبهم من الغنائم، كما هو حال الروس والصينيين اليوم والذين استوعبوا سريعًا التحولات الكبرى في قواعد الاشتباك والصراع في المنطقة وقرروا الاستثمار الإستراتيجي بالرهان الصلب على تيار المقاومة وعناصره.

هناك أمثلة ومفارقات طبيعية كالمعادلات الرياضية من واقعنا العربي المعاصر، ولعل من المناسب التذكير بأن إخراج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية قسرًا من بيروت عام 1982م بعد إخراجها قسرًا من عمان عام 1970م، هو من ولد مقاومات أكثر ضراوة وفاعلية كحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، بإرادات شعبية خالصة رغم كل المحاذير والمخاطر المحلية والإقليمية والدولية.

وهذا كمثال واحد فقط للخلل الأزلي بين الأهداف والنتائج ، وكمثال على الشعوب والأمم العظيمة وكيف تتداول مشعل النضال بين أجيالها طالما هناك حق مسلوب ومظالم ترتكب وأمجاد تُختطف في وضح النهار.

وقرار أقطار مجلس التعاون بإعتبار حزب الله منظمة إرهابية وفي هذا الظرف بالتحديد سيسقطها في فخ أخلاقي معيب لن تستطيع الإنفكاك منه، لما يعنيه حزب الله من رمزيات ودلالات في الوجدان العربي المعاصر، فهو القوة العسكرية الوحيدة في زمننا والتي حققت مبدأ توازن الرعب بيننا وكيان العدو، والنيل من حزب الله يعني النيل من رمزيته ودلالاته وخدمة مجانية لأعداء الأمة وأعدائه.

الأمر الآخر أنّ أقطار الخليج لم تكن تصنف أو تعترف بحزب الله كحزب مقاوم أصلًا حتى تبصمه بالإرهاب اليوم، كما أنّها لم تقدم له ذرة من المعونات أو المساعدات المالية أو العينية كحزب مقاوم بل عمل البعض على مساومته ترهيبًا وترغيبًا لرمي السلاح مقابل حياة فردوسية، حيث كان هذا البعض يعتبر وجود حزب الله خطرًا وعبئًا أخلاقيًا عليه وعلى مشروعه للمنطقة، ومن أصعب المواقف في حياة الإنسان أن يُحاسب على وجوده وإحسانه لا على ذنب إقترفه.

هذا القرار الخليجي في زمانه وحجمه لايستهدف حزب الله مباشرة لأنّ الحزب مُحصن من هكذا قرارات من الكبار قبل الصغار، بدليل فشل مقررات مؤتمر شرم الشيخ 1996م "لمكافحة الإرهاب" ومنها تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية وما تلاها من خطوات أمريكية وأوروبية لتحقيق ذات الهدف ولنزع سلاح الحزب، بل يستهدف تسفيه النضال العربي وإنكار الحق العربي، وتمزيق لبنان والتضحية به عبر سلسلة من الإجراءات والقرارات التابعة والتي يُرجى من ورائها التضييق على لبنان حكومة وشعبًا كي يضيقوا بدورهم على حزب الله وجعله شماعة مشكلات لبنان ومفتاح سعادته كذلك وليصبح نموذج لبنان المعاقب عبرة لغيره من الأقطار الشقيقة والصديقة التي تؤمن بالمقاومة والنضال من أجل استرداد الحق العربي. وهذا ما لم يتحقق أبدًا من واقع المعطيات السابقة واللآحقة فالإملاءات لم تعد تجدي اليوم ، ويكفي أنّ السبب الرئيس لتعطيل ما يسمى بالهبة للبنان هو التيقن من أنّ عقيدة الجيش اللبناني متناغمة إلى حد التطابق مع عقيدة حزب الله، ولكنهم أسموها بـ ذريعة " اختراق الحزب للجيش". فلمن كل هذا الصراع المجاني !؟

قبل اللقاء: يقول برنارد لويس منظر العنصرية الغربية:" إنّ الأمّة المتمردة تصبح مثل الفهد المفترس، فإما أن تقتله، وإما أن تروضه ليتحول إلى مهرج في سيرك الأمم". أما سئمتم وخجلتم من الترويض والتهريج في سيرك الأمم!؟

"وإذا العناية لاحظتك عيونها ** نم فالمخاوف كلهن أمان"

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك