أباطرةُ الكلمة ..

هلال بن سالم الزيدي

عندما يتحدثون فهم أباطرة المجلس .. وعندما يُنظّرون فهم ملوك الكلمة.. وعندما يعتلون المنبر فهم سادة الخطب.. وعندما يكتبون فهم مقود المجتمع ومُصلحيه.. فتجدهم جميعاً وقلوبهم شتى.. يتسابقون إلى قمم الشُهرة .. لأنهم يعتقدون أنّهم القدوة التي يجب أن يُقتدى بها..لكن إذا تعلق الأمر بشخوصهم فلا تجد مما يقولون شيئًا، ولا مما يُسطّرون .. ولا مما يهمسون به.. فالذات بعيدة عمّا تقول في واقع الأمر، لكنهم يُكابرون ويشمخون في علو المنزلة.. يبحثون عن مجد ضائع بين رغبات الأنانية وفقاعة الشهرة.. فهناك من لا يفهمهم فيبجلهم ويقدسهم، فيحني هامته لوفرة ما يتشدقون به.. وهناك ممن يرى زيغهم وتناقضهم الصارخ في ساحة الوغى، لذا يبتعد عنهم ولا يُضيّع وقته معهم.. لبسوا حُلة الإمبراطور في شكله فقط، لكنهم تعاموا عن معناه الذي يحتاج إلى إمبراطورية وتاريخ وقبول بين العامة قبل الخاصة.. إلا أنهم وجدوا مساحة وساحة ليتمرغوا بها ويعيشون جنون العظمة.. إنهم أباطرة الكلمة، لكن أية كلمة هذه، إذا كانت النوايا حق يراد به باطل..؟

تمتلئ الساحة بأباطرة الكلمة في مختلف المجالات نثرًا وشعرًا وخطابة وصوتاً وفصاحة.. فيتسابقون لالتقاط صورة "سلفي" علهم يعممون قناعاتهم على الآخرين.. ومع الانفتاح الفج وغير الموزون في عالم الاتصال يجدون البيئة خصبة فيهرعون ليهرفوا بما لا يعرفوا.. ويرتدون حُلة الصلاح والمعرفة والأحقية في التربع على قمة الهرم في مختلف مجالات الحياة، اجتماعيا وثقافيا وصحفيا ودينيا.. يا لكثرتهم .. ويا لكثرة غوغائيتهم! لكن المجتمع يمنحهم فرصة الرجوع والعدول من باب التجربة، إلا أنهم يعتقدون أنّهم هم ولا أحد غيرهم، فالعصمة بأيديهم ولا يمكن لأحد أن يقاسمهم تلك الإمبراطورية.. لأنهم هم من أسسوها" إن جاز لنا أن نسمي ذلك تأسيساً" لذا لا يجب أن تذهب لغيرهم.. فهي أنانية تستشري في أجسادهم حتى النخاع.. إلى متى هذا الحلم يا أباطرة الكلمة..؟

من على منبر الخطابة يصنع لنفسه هامة وقامة.. يتوكأ على عصاه لتحمل جسده المثخن بنفسه.. فيصول ويجول في كل شيء، فيتحدث عن التواضع والحكمة والتسامح.. وينادي بالكرم والود والإخلاص.. وهناك في المقابل أجساد من شتى الثقافات والحضارات.. ينصتون فلا تسمع لهم إلا همساً.. ويشخصون أبصارهم إلى خطيبهم الذي تسيد المنبر فلا صوت يعلو عليه.. فتارة يهمس بصوت خافت، وتارة يصرخ ليوقظ من تأتيه سنة من النوم بين تلك الحشود من فرط أسلوبه الممل.. فيطفق ضربا في الأدلة والبراهين.. ويسدد سهامه إلى الحياة حتى ينتهي.. لتقام الصلاة بعد مسرحية دينية لا تجد ما تمسك منها.. يهرول المصلون من الجامع إلى بيوتهم، ويهرول هو فارداً قامته لا يلتفت يميناً ولا يسارا، والمحظوظ الذي لا يقع في طريقه وإلا جرفه.. فلا سلام ولا تحية ولا ابتسامة في وجوه المصلين.. وطالما ما دخل المسجد دون أن ينبس بالسلام.. أي صلاح وتواضع هذا يا شيخ المنبر الذي تتحدث عنه، وتحث المصلين أن يتبعوه..؟ يا لقمة التناقض أيها المرتدي تلك العمامة..؟

من بين الفضاء الواسع يتحدثون عن الحرية، وأيّ حرية؟ إنها حرية الكلمة.. وينادون بالرأي والرأي الآخر.. وتتغنى وسائل الإعلام جميعها بما يكتبون.. لكن الرأي الآخر لا يؤمنون به إذا تعارض مع مصالحهم.. فبأيديهم يغيرون الأنظمة التي تحتفظ بمكانتهم.. فيتسللون إلى عمق المجتمع ويتبنون قضاياه إلى آخر قطرة حبر لديهم.. وفي المقابل فهم يختلفون مع أصحابهم من ذوي الأقلام.. لأنّ مبدأهم إما معي أو ضدي، فأيّ حرية هذه التي تنادون بها وأنتم لا تمنحون من معكم حرية الكلمة ضد ما تقومون به من تجنٍ سافر ضد حقوق الأعضاء الذين أوجدوكم من العدم..؟ وأي رأي آخر تتزلفون به وأنتم أصحاب الرأي الأول والأخير..؟ لقد علق المجتمع الأمل في مهنتكم التي أصبحت مهنة من لا مهنة له.. فغردتم خارج السرب كي تتربعون على عرش اجتماعي يهتم بلملمة شتات التفرق الذي أوجدتموه، حتى القوانين التي وضعت ضربتم بها عرض الحائط، ألا يعتبر ذلك تناقضا كبيرا؟ تحدثتم عن الأمانة في نقل الكلمة لكنكم حرّفتم فيها بحسب أهوائكم، ولم تتركوا المجال لمن يختلف معكم.. فأردتم تفصيل ملبسكم لتُلبِسوه الآخرين مع تباين في المقاسات.. إلى متى هذا التجاهل والتغني بالذات؟ كتبتم كثيراً في التغيير وعدم التمسك بالمناصب، لكنكم لم تطبقوا ذلك على أنفسكم.. فمنذ تأسيس كيانكم الذي تلتفون عليه وأنتم متربعون على عرشه، هل يا ترى لا يوجد أحد غيركم..؟ إن كانت هذه قناعاتكم فلا أعتقد بأنكم واقعيين، ولا يمكن أن يتقبلكم الطرف الآخر حتى من باب المجاملة.. عليكم أيها الأباطرة أن تخلعوا زي الإمبراطورية الذي تنعّمت به لأن مقاسه أصبح لا يوازي طموحاتنا، ويبدوا أنه مهترأً.. لذا اتركوا المجال لمن يستطيع أن يُغير في عالم الحرية ويمنح الكلمة قدرها وحقها.. لأنني سأقتنع بما يقوله البعض .. "بأنكم تقولون ما لا تفعلون".

إنهم الأباطرة الذي تأطروا بالمثالية، وهي بريئة منهم.. إنهم الأباطرة الذين نادوا بأنهم هم ومن بعدهم الطوفان.. إنهم أباطرة الكلمة وحكماء المواقف، وأصحاب الحلول والأفكار.. إنهم أباطرة تبطروا وتجردوا من كل ما يقولون ويكتبون.. عفوا عفوا أيها القارئ.. هذا ليس تعميمًا، وإنما حديثًا لا ألزمكم به لأنني لست إمبراطوراً للكلمة أو المنبر، فقط مجتهد أكتب من أجل الكلمة التي أحملها على رأسي، ولا أتكئ عليها لأنها عظيمة وذات قيمة.

همسة:

وهل يعود إذا غاب القمر..؟ لأنّه القدر.. لربما يعود بعودة مشروطة إذا كتب له القدر..أما أنتِ فعليك أن تترقبي القمر حتى يكتمل من أجل أن تُعيدي له وهجه ونوره.. وعليك أيتّها الساكنة في جوفه أن تعي بأنّ الحياة فرصة ستنتهي إن لم يكن هناك من يستجيب لها.. فالسخف أن نتحدث كثيراً لكننا لا نطبق حرفًا واحدًا مما نقول، لذا فلا يمكن أن تكوني إمبراطورة دون أن تتحسسي قلبك.. "مشهد".

*كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك