أحمد الخروصي.. صورة من صور العطاء

زاهر المحروقي

أحمد بن حمد الخروصي أحد الأشخاص الذين مروا بتجربة قاسية، خرج منها إنساناً آخر يفيض خيراً وعطاءً؛ والتجربةُ حدثتْ في العام 1983، عندما تعرَّض الخروصي لحادث سير أليم، وظل في حالة حرجة وفي غيبوبة تامة لمدة 18 يوماً، بسبب إصابته بارتجاج في المخ ونزيف داخلي، وكسر في الفك وثقب في الأذن، وقد سافر إلى بريطانيا لاستكمال العلاج، ولكنه بعد شهر صُعق بخبر وفاة أخيه الذي كان معه في السيارة، وكان من ضمن ما علمه أنَّ عناية الله أنقذته من الموت، بفضل "أحد المتبرعين بالدم".

في رحلة الحياة يمرُّ على الإنسان أحياناً موقفٌ معين، فيغيِّر حياتَه ويوجهها إلى مسار معين. وقد يكون هذا الموقف سبباً في تغيير أفكار الإنسان وقناعاته، بما تركه من أثر على شخصيته، وهناك قصصٌ كثيرة لأبطال مروا بموقف معين كان له الأثر الكبير في تكوين شخصيته، وقد تكون هذه المواقف محزنة وقد تكون سعيدة، إلا أن شخصية الإنسان هي التي تحدد مصيره بعد الموقف؛ فهناك من يتعلم الدرس فينهض بقوة ويحقق المعجزات، وهناك من ينهار وتتأثر حياته كلها، وليس معنى هذا أن الإنسان يجب أن يمر بتجربة قاسية لكي يتجه إلى العمل الإنساني، وإنما المقصود أن الإنسان قد يغفل أحياناً عن شيء ما حتى يحدث له موقف معين ينبهه إلى معاناة الآخرين، وربما هذا ما حدث مع أحمد الخروصي، الذي نهض من الحادث قوياً وصار له هدف في الحياة.

لقد رنَّت عبارة "عناية الله أنقذته من الموت، بفضل أحد المتبرعين بالدم" في أذن أحمد الخروصي كثيراً، وكان رنينها من القوة بحيث ظل يسمع صداها في كل لحظة، وكانت تلك العبارة بعد الحادث، هي نقطة تحول في حياته؛ إذ أيقن بأهمية التبرع بالدم، وبدأ رحلة التبرع شخصياً قبل أن يدعو غيره، لإيمانه بأن أكثر الناس إحساساً بقيمة النعمة هو فاقدها، وكان رأيه أنه لا يجب أن ننتظر من يمد لنا يده طالباً للعون، أو صارخاً يستجدي قطرة دم لإنقاذ حبيب أو قريب؛ وإنما الواجب أن نبادر جميعاً للتبرع بهذا السائل الغالي "الدم"، فهذا هو الواجب والأَوْلى أن يُفعل دون مطالبة من أحد، فكانت بداية رحلته بالتبرع بالدم، في 16 إبريل 1986، وآخرها كانت في 20 فبراير 2016، وبلغ عدد المرات التي تبرع فيها بالدم حتى الآن 115 مرة، وكان في البداية يتبرع كل ثلاثة أشهر بصفة منتظمة ودورية، ولما تقدم به العمر انخفضت مرات التبرع -حسب رأي ذوي الشأن- إلا أنه لم يتوقف، بل حث الآخرين وبدأ بأسرته، فبلغ ما تبرع به هو وأسرته أكثر من 67.500 ملليتر من الدم، ولتردده بصورة منتظمة على بنك الدم، منحته وزارة الصحة لقب "المتبرع العام بالدم في السلطنة"، وهو اللقب الذي اعتبره شرفاً ووسام فخر على صدره.

ولا يزال أحمد الخروصي يواصل دعوة الأصدقاء والأهل والأقارب للتبرع بالدم، ويقول إن الدم وقت تعرضه للحادث كان يتم استيراده من الخارج؛ لذا عزم أن يحث أفراد المجتمع على ضرورة التبرع وأهميته في إنقاذ الحالات التي تحتاج لعملية نقل دم بصورة مستعجلة، إلى جانب فوائد التبرع بالدم بصورة عامة، وقد استطاع أن يغرس في أسرته حب التبرع بالدم، فتبرعت زوجته وإخوته وأبناؤه أكثر من مرة، وأصبحوا يُحثون الآخرين إلى ضرورة التبرع، من أجل مساعدة الآخرين.

وقد زاد نشاط الخروصي في الدعوة للتبرع بالدم، وأسس فريقاً ضم ما يقارب ستة آلاف متبرع، جميعهم من الأصدقاء والمعارف والأهل ومجموعات العمل، حتى وصل الأمر لتكوين فريق "أصدقاء بنك الدم"؛ وذلك بفضل وعي الناس والإدراك الذي انتشر في المجتمع بأهمية هذا التبرع، وهو يقوم بحملات توعوية ميدانية، في الهيئات والمؤسسات الحكومية والخاصة؛ وهو ما يمنحه الشعور بالراحة النفسية الكبيرة، معتبراً أن التبرع بالدم هو تبرع بأغلى ما يملكه الإنسان، ومن أعظم التضحيات التي يمكن أن يقدمها الإنسان للآخرين، كما أنه عملٌ نابعٌ من إيمان صادق ويقين راسخ بأهمية هذا العمل كواجب ديني ووطني وإنساني، يحتمُ على الجميع التعاون والتكاتف من أجل الوصول إلى مجتمع صحي وسعيد.

ولم يكتفِ الخروصي بالجولات الميدانية في الهيئات والوزرات، بل طاف أرجاء عمان من أجل إنقاذ الآلاف من المرضى والمصابين؛ مما جعل اسمه معروفاً داخل عمان وخارجها؛ فنال الأوسمة والشهادات الكثيرة من دول الخليج ومن المؤسسات الرسمية في السلطنة، وكون ما يشبه متحفاً في منزله أسماه "مجلس الأوسمة"، يعرض فيه ما حصل عليه من أوسمة ودروع وشهادات من عشرات المؤسسات الحكومية والمدنية والعسكرية والخاصة، نظير جهده وعمله الدؤوب في خدمة البشرية، ويضم مجلسه 18 درعاً عسكريًّا، و17 درعاً من وزارة الصحة، ومن قوات السلطان المسلحة والحرس السلطاني العماني وشرطة عمان السلطانية ومن المؤسسات والشخصيات المختلفة، هذا بخلاف شهادات تقدير من السلطنة ومن بعض دول مجلس التعاون.

ورغم تلك الشهادات والدروع والأوسمة التي نالها أحمد الخروصي، إلا أنني قرأت رسالة في أحد المواقع تشير إلى أنه يعيش مهموماً بواقعه المادي والوظيفي ومستقبل أبنائه، لأن مصدر دخله الوحيد هو راتبه التقاعدي البسيط، وأنه يبحث الآن عن عمل حتى يعيل أسرته، وهي في الواقع معاناة الكثيرين ممن تصدوا للعمل العام والتطوعي؛ إذ إنَّ الدروع والنياشين والشهادات لن تساعد أي أسرة في تلبية المتطلبات اليومية للحياة؛ وهذا الموضوع يعيدني إلى قصة رمزية قصيرة لا أدري من كاتبها ولكنها متداولة، وسبق لي وأن نشرتُها في مقال "ما هكذا يُكافأ المخلصون" إذ تقول القصة: "صافحه الوزير وهو يقدم له شهادة تقدير ودرعاً تذكارياً، وقال له: أتمنى لك حياة جديدة مفعمة بالنجاح.. خرج الرجل من الحفل ليبيع الدرع في سوق الخردة، ويشترى بثمنه عشاء لأطفاله". وفي الحقيقة إن كثرة الدروع والأوسمة والشهادات هي تقديرٌ معنويٌ ممتاز، إلا أنه لا يعني أن ننسى التقدير المادي، خاصة إذا كانت ظروف الشخص المكرم صعبة؛ ومتى ما وجد الإنسان التقدير سواء في عمله الرسمي أو الخيري والتطوعي، فإن ذلك يكون حافزاً على المزيد من العطاء والإخلاص، ويعطي الصورة الحسنة للأجيال القادمة بأن تسلك طريق العطاء وأن تبتعد عن الأثرة والأنانية، لأن التقدير مضمون؛ وفي حالة أحمد بن حمد الخروصي فإنه بذل الكثير من جهده ووقته لأجل قضية إنسانية، هي التبرع بالدم وحث الآخرين على ذلك، وهو يقول "الحمد لله، إن حملات التوعية التي قمنا بها، آتت ثمارها الطيبة بشكل ملحوظ، ويكفي دليلاً على ذلك أننا لم نعد نستورد الدم اعتباراً من عام 1991م، وأصبح الاعتماد بشكل أساسي على الدم المحلي الذي يتبرع به المواطنون والمقيمون على أرض السلطنة"، وهذا إنجاز كبير، لأن حاجة الدم في عمان ملحة نظراً لظروف كثيرة، منها حوادث السيارات المتكررة.

... إنَّ الحادث المؤلم الذي وقع لأحمد الخروصي شكَّل نقطة تحول كبيرة في حياته، ووجههُ إلى العمل التطوعي بالتبرع بالدم، ومبدأه أنَّ من يفعل الخير لن يُعدم جوازيه، ولا يضيع المعروف عند الله، وكل ما سد حاجة فهو محمود.

وأحمد الخروصي صورةٌ من صور العطاء في عُمان، وهناك مُخلصون كثيرون يعملون في صمت وبعيداً عن ضجيج وصخب الإعلام، ومثل هؤلاء لا بد أن ينظر إليهم بما يليق بعطاءاتهم.

تعليق عبر الفيس بوك