العدالة الدولية الجنائية

ناصر مُحمَّد

في العام 1962م تمَّ وضع أحد مهندسي معسكرات الاعتقال النازية أمام المحكمة الإسرائيلية لمحاكمته بجرائم حرب، وكان هذا المتهم "أدولف آيخمان" هادئا في المحاكمة، ويجيب عن الأسئلة بكل ثقة أحرجت الجميع معه؛ لأنَّ الأجوبة كانت مختلفة عن المتوقع؛ ذلك التوقع أن آيخمان يفترض به الشعور بالذنب لما ارتكبه من جرائم إبادة في حق اليهود، ولكن ما أثار دهشة الجميع هو أن أيخمان كان يعترف بجرائمه ولكن دون أن يبدي امتعاضه أو ذلك الإحساس بالخطأ في حق ضحاياه، ليس لأنه كان مستمتعا بالقتل، بل لأنه لم يكن له رأي أو شعور إزاء الموضوع، فهو كان مجرد أداة بيد محرك أكبر، ولم يتسنَّ له وضع ما يفعله في ميزان الحق والباطل. ولم تكن أجوبة آيخمان تشفي غليل أسر الضحايا ولا أغلبية المتابعين؛ إذ إنَّ الفكرة السائدة في ذلك الوقت هي أن الإنسان حاضر بكل حواسه في أفعاله ومدرك لها والذي يستدعي وضعه في دائرة الاتهام وكذبه في حال إنكار شعوره بالذنب.

إلا أن المفكرة اليهودية "حنا أرندت"، وهي من ضمن الضحايا، تعاطفت مع آيخمان في موقفه، ليس إقرارا منها بمشروعية أفعاله وإنما في موقعه من هذه الأفعال، فهو في رأيها مجرد موظف تم مسخ شخصيته أمام الأيديولوجيا النازية، ولم يكن له رأي بقدر ما كان منفذا صادقا لأوامر بيروقراطية الرايخ الثالث، وقد كتبت حنا ذلك في كتابها "آيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشر" بأن الشر ليس جذريا في الإنسان بقدر ما هو عارض عليه، والإنسان معرض للإمساخ أمام الأيديولوجيا ليتحول إلى مجرد رقم أو نكرة أمام الأفعال التي ينفذها. ولهذا طالبت أرندت محاكمة الأيديولوجيا كنسق سياسي وليس ضحاياها. ولقد ناقش كذلك عالم التحليل النفسي "كارل غوستاف يونغ" في كتابه "النازية في ضوء التحليل النفسي" ذلك التقبل الغريب للألمان من فلاسفة وعلماء ومثقفين وفنانين لأفعال هتلر الإجرامية، وناقش في هذا الكتاب فكرة اللاوعي الجمعي الذي يراه ذا طابع اسطوري يكتسح الحاسة النقدية لكل الإنسان.

لم يكن المجتمع الدولي المتمثل بعصبة الأمم وخليفتها الأمم المتحدة ببعيدة عن العدالة الدولية الجنائية، فعقب الحرب العالمية الأولى وبعد توقيع معاهدة فرساي التي كان من ضمن بنودها محاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب الألمان ومن ضمنهم الامبراطور الالماني "فيلهلم الثاني"، اصطدمت هذه المحكمة بعدة عقبات أهمها حصانة الرؤساء من الملاحقة الجنائية، فتمت محاكمة عدد من المسؤولين الصغار والذين لم تكن لهم اليد الطولى في الأمر والنهي أثناء الحرب. وبعد ذلك قام المنتصرون في الحرب العالمية الثانية بتأسيس محكمة نورمبورغ وطوكيو عام 1945م لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب من قبل المحور. وقد تم انتقاد هذه المحكمة أنها انتقائية وغير دائمة، وكذلك لأنها انتقامية أمام العدالة الدولية؛ إذ المفترض محاكمة الطرفين وليس الطرف المنهزم فقط. وفي عام 1949م تم اعتماد اتفاقيات جنيف الأربع وذلك للتخفيف من الخسائر البشرية واستثناء بعض الفئات كالمدنيين وأسرى الحرب للاستفادة من الضمانات التي أقرتها تلك الاتفاقيات، ولكن ظلت أيضا دون جهة قضائية تتأكد من تنفيذها. وفي عام 1993-1994 تم تأسيس المحكمة الدولية الجنائية لرواندا ويوغوسلافيا السابقة على خلفية جرائم الإبادة في البلدين، وتم توجيه أيضا بعض الانتقادات ضد المحكمتين مثل الانتقائية وتجاوز مجلس الأمن صلاحياته بتأسيس المحكمتين رغما عن باقي الدول، إلا أنه على الرغم من هذه الانتقادات كانت هاتان المحكمتان البذرة الأصيلة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية عام 1998 وفقا لمعاهدة روما. والتي كان من ضمن شروطها الأساسية مصادقة الدول طوعا لامتداد اختصاص اللجنة لها.

ولم يفت معاهدة روما في نظامها الأساسي أن تشير إلى "المسؤولية الفردية" للجرائم المنصوص عليها. فالمسؤولية فردية أي أن المنشئ الرئيسي للقرار هو الذي تمتد إليه التهم، وقد نص النظام الأساسي للمحكمة لذلك في المادة 25. وكذلك نصت المادة 28 بمسؤولية القادة العسكريين والرؤساء عن الأوامر والقرارات التي يصدرونها تحت سلطتهم الفعلية. وهذا طبعا تجنبا لمحاكمة المرؤسين الذين ليست لهم أية صفة في ظل الأنظمة الشمولية عموما. ويمتد اختصاص المحكمة حسب المادة 5 إلى جرائم الحرب وجرائم العدوان وضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، وقد ضمنت المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة جرائم الحرب التي تغطي أغلب نصوص اتفاقيات جنيف.

وينبغي التفريق بين القانون الدولي الجنائي والقانون الجنائي الدولي، فالأخير يختص فقط بالجرائم عبر الوطنية (العابرة للحدود) والتي ينظمها القانون الداخلي للدول مثل جرائم غسيل الأموال والاتجار بالمخدرات والإرهاب. أما القانون الدولي الجنائي فيختص بموضوع المقال ولا يمتد لقضايا الإرهاب. وهنا أثيرت بعض الانتقادات على المحكمة الجنائية الدولية في أنها تختص بالجرائم الدولية في حال صادقت الدول على المعاهدة بمعنى أن العديد من المسؤولين سيفلتون من المحاكمة بسبب هذا الشرط. إلا أن النظام الأساسي للمحكمة تفادى هذا الموضوع وفقا للمادة 13 الفقرة (ب)؛ وذلك بإحالة أية قضية من قبل مجلس الأمن وفقا للفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة. ولقد تم تطبيق هذا الإجراء ضد الرئيس السوداني إذ استصدر بحقه مذكرة قبض من قبل المحكمة الجنائية الدولية بعد الإحالة من مجلس الأمن. وفي كل الأحوال لايزال تسييس المحكمة الجنائية الدولية واردا إذا تمت الإحالة من مجلس الأمن لدخوله في العدالة الانتقائية، إلا أنه في الجانب المقابل سيعوض إشكالية عدم مصادقة الدول المتورطة بجرائم ضد الإنسانية للمعاهدة.

أمَّا بشأن علاقة السلطنة بالقانون الدولي الجنائي، فإن السلطنة لم تصادق على المعاهدة وإنما اكتفت بالتوقيع عليها عام 2000 والذي يلزمها بالامتناع عن ممارسة أي من الجرائم المنصوص عليها في معاهدة روما وفقا لاتفاقية فيينا للمعاهدات. ولقد انضمت السلطنة لاتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها عدا البروتوكول الثالث التي تدخل ضمن القانون الدولي الإنساني، وقامت بتضمين الكثير من بنودها في قانون القضاء العسكري الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (110/2011)، وحددت المادة 14 من القانون الخاضعين للمحاكمة ضمن اختصاص المحكمة والذي يعتبر تمهيدا لبحث إمكانية انضمام السلطنة لمعاهدة روما في المستقبل.

تعليق عبر الفيس بوك