أبوي المعلم.. يسقيك الله

عائشة البلوشية

ما أجمل تلك الحلقة التي يزداد طنينها كلما اقتربت منها، أطفال يتوسّطهم رجل مسن محني الظهر، وفي يده عصاه التي لا تفارق يده، تعينه في مشيته وله فيها معنا مآرب أخرى، إنه معلمي الأول محمد القبيلي رحمه الله وغفر له وجزاه الله عنا خير الجزاء، أول من علمني القرآن، وكيفية كتابة الحروف والأرقام، في حلقة القرآن قبل التحاقي بالمدرسة، أي بلغة اليوم كانت تلك مرحلة التعليم قبل المدرسي، وخلال تلك الفترة العمرية تعلمت وأقراني الانضباط وتقديس الدقيقة من الوقت، فمن يصل متأخرا الويل ثم الويل له، حيث يظهر لنا في تلك الحالات المآرب الأخرى لعصاه، وتعلمت أنّ البيئة التعليمية لا تعني شيئا إذا لم يكن المعلم قادرًا على جذب انتباه طلاب علمه، فمن تحت سدرة المركاض الوارفة الظلال، تعلمت احترام معلمي، واحترام طلاب العلم في ذات الوقت، حيث يجب علينا أن ننهض من مكاننا ونذهب إلى مكان جلوسه، ولا ننبس ببنت شفة حتى يلتفت إلينا، وبصوت خفيض نسأله:"أبوي المعلم يسقيك الله" إذا أردنا أن نشرب الماء، وإن كان الماء بحوزتنا، لكننا لا نجرؤ على شربه دون إذن، ثم نستبدلها بـ "يرحمك الله أو يعافيك الله" إذا أردنا قضاء الحاجة، ولكل منهما دلالة معيّنة، وذلك حتى يحسب لنا مدة الغياب التي يجب ألا نتجاوزها فنتعرض للعقاب؛ لنلاحظ كيفية مخاطبتنا للمعلم حينها، فقد كنا نناديه بلفظ والدي، حيث كان لزامًا علينا أن نسبق الجملة بـ (أبوي المعلم) لنحس بأنّه هو معلمنا خارج المنزل بعد والدينا، ولنجد وقاره في أنفسنا، وكان المعلم القبيلي رحمه الله يمر في طرقات الحارة مدركا مكانته العالية في قلوب جميع الأهالي، وكلمة "نظر" التي كان يخطها لنا على ورقة الواجب الأسبوعي هي بمثابة شهادة تخرج لنا.

قال تعالى في سورة البقرة في الآيتين 31 و 32: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ)، وهنا تتضح أهميّة التعليم في حياة البشر، فقد كان تعليم أبينا آدم عليه السلام ﻷسماء الموجودات كلها هي أول ما كان له من الله تعالى بعد خلقه، وكان تعلم آدم للأسماء سببا ﻷن يأمر الله تعالى الملائكة بالسجود له، وكان هو أيضًا سبب حقد إبليس وغضبه ورفضه الصريح ﻷمر الله تعالى، بأن ّفضل الله جلّ جلاله هذا المخلوق من طين وعلمه الأسماء كلها، وجعله خليفته في الأرض، ومن هذا المنطلق فإنّ مهمة التعليم مهنة عظيمة وكبيرة، فإذا ما أمسكنا بآيات القرآن الكريم التي حوت الكثير من الدلالات المباشرة وغير المباشرة عن العلم والتعليم والعلماء لوجدنا العجيب والرائع، وبين بداية الخلق وبين بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسالة الإسلام، خاتمة الرسالات السماوية، قرون كثيرة من الزمان، ولكننا نرى رابطا عجيبا بين تعليم أبونا آدم عليه السلام الأسماء كلها، وبين أول آية نزل بها جبريل على نبينا عليهما الصلاة و السلام، فإنه لم ينزل له بكلمة "آمن" أو "أسلم"، أو كما حدث مع جميع الانبياء والرسل في بقية الرسالات السماوية السابقة، بل كانت الكلمة الأولى هي "اقرأ" في سورة العلق الآية 1 قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) التي رددها عليه في غار حراء في جبال مكة المكرمة، ليكون العلم والتعليم هو حديث السماء الأبدي إلى بني آدم على مر الأزمنة والعصور..

ما أعظمك أيّها المعلم، وما أعظم مهنة شرفك الله بها في لوحك المحفوظ، هي قدر خط لك سواء اخترته بنفسك أو كان حظوتك ضمن عمادات القبول والتسجيل في الكليات والجامعات، أو نتائج حددت مسارك في مركز القبول الموحد، وما أجمل أن نرضي الله تعالى بقبول قضائه فينا، وأن نبدع في هذه المهنة المغلفة بروعة روحانية تسمو بروح المعطي والمتلقي عندما يجعل الله لك أجر تعليم إنسان ما شيئا - مهما اختلفت الأعمار بين المعلم والمتعلم- وتكون أول من علمه ذلك الأمر الذي قد يعينه على دينه ودنياه وعاقبة أمره، ومن هذا المنبر أقول إن أرض بلادي مليئة بأمثلة رائعة ورائدة من معلمين ومعلمات لا تنحصر على العمانيين فقط، ولا يسعني المجال ﻷن أسهب في ذكرهم، ولكنني أرفع القبعة احتراما لكل من علم بشرًا حب العلم والعلوم، والارتباط بالوطن والأرض، وقد أخرت المقال عمدًا حتى أقول بأنّ عيد المعلم ليس حصرًا على الرابع والعشرين من فبراير، بل كل يوم وكل لحظة هي عيد لك أيّها المعلم، فبالعلم نحيا وبالعلم نرتقي وبالعلم نصل إلى حقيقة خلقنا..

توقيع:
"عجبت منك ومني.. يا منية المتمني
أدنيتني منك حتى.. ظننت أنك أني
وغبت في الوجد حتى.. أفنيتني بك عني"

الحلاج،،،

تعليق عبر الفيس بوك