هيكل الذي رحل

زاهر بن حارث المحروقي

تعود معرفتي باسم محمد حسنين هيكل إلى عام 1976؛ وذلك عندما ذهبتُ إلى مكتبة "أيمن" في روي، والتي كان يملكها الراحل إقبال الحبيب، وهو الذي كان ينتقي أهمّ الكتب ويقدّم الجديد منها أولاً بأول،أ فوجدتُ كتاباً من تأليف هيكل عنوانه "لمصر.. لا لعبد الناصر"، وحقيقةً لم أكن أعرف من هو هيكل؟، ولكن مجرد وجود اسم عبد الناصر وصورته في غلاف الكتاب، جعلني أطلب من أبي ريالاً و250 بيسة لأشتري الكتاب، وهو أول كتاب أشتريه في حياتي وما زلت أحتفظ به حتى هذه اللحظة، وكانت موضوعات الكتاب شائكة بالنسبة لي في ذلك العمر بالذات، إذ لم أكن أعلم أنّ الرئيس السادات قد استخدم "الممحاة"، لمحو كلّ آثار الزعيم جمال عبد الناصر، ولم أكن أعلم شيئاً عما سُمِّي بثورة التصحيح وأنّ السادات قد زج بالناصريين في السجون، ولا بقصة علي أمين الذي ترأس الأهرام بعد إبعاد هيكل، إلا أنّي فوجئت بأنّ هيكل يذكر في كتابه هذا وقائع تتصل ببعض ما يثار في مصر ضد عبد الناصر، وكتب هيكل في مقدمة الكتاب التي لم تتجاوز نصف صفحة، أنّ هدفه بهذا الكتاب ليس الرد أو الدفاع عن عبد الناصر أو أن يسجل تاريخاً، فذلك كله لم يأت أوانه بعد؛ وإنما هدفه أن يعرف الشعب في مصر وتعرف شعوب الأمة العربية أنّ الحقيقة ليست ما يدعى به فيما ينشر ويقال في القاهرة، ثم أشار أنه يعرف مقدماً أنّ أحاديث هذا الكتاب لن تصل إلى القارئ المصري، وأنها سوف تثير عليه ما هو في غنى عنه، وسوف يُهاجَم بسببها دون فرصة لحق الدفاع عن النفس، وسوف يُنسب إليه ما لم يقله ويُتّهم بما لم يقترفه، ومع ذلك فإنه قبل راضياً وسعيداً، عارفاً أنّ كلَّ إنسان يملك اختيار مواقفه ولكن من منا يملك اختيار مقاديره؟! وقد ذكر في تلك المقدمة أنه رفض قبول دور الشيطان الأخرس الساكت عن الحق.

كانت تلك المقدمة القصيرة هي خطة العمل التي مشى عليها هيكل فيما بعد، والذي أصبح أهم صحفي عربي ومن أهم الصحفيين العالميين، وحقق تألقاً كبيراً في سماء الصحافة والنشر في العالم، فما توقعه في مقدمته تلك قد حصل في مصر، بعد أن أصبح عبد الناصر مستهدفاً، وبعد أن غيّر الرئيس السادات بوصلة السياسة المصرية إلى النقيض تماماً، لدرجة عقدِ صلح منفرد مع إسرائيل، فأصيبت الأمة العربية في مقتل، ثم إنّ توقع هيكل بأن يحدث كتابه هذا ضجة كبرى قد تحقق بالفعل، كما أنّ أوان كتابته ودفاعه عن عبد الناصر أتى فيما بعد عبر الكثير من الكتب والمقالات التوثيقية والتأريخية، حيث ظلّ هيكل مؤمناً برأيه ومدافعاً عما يؤمن به بشراسة منقطعة النظير، عن طريق تقديم آلاف الوثائق تدعم رأيه، وهذا ما جعل خصومه، الذين يتهمونه بأنه استأثر بالشهرة لقربه من عبد الناصر يصغرون أمام النجومية التي نالها هيكل بعد وفاة عبد الناصر وبعد إقالته من الأهرام عام 1974، وهم الذين ظنوا أنّ شرعية هيكل مستمدة من قربه من عبد الناصر فقط.

ضمَّ كتاب "لمصر... لا لعبد الناصر" إثنا عشر مقالاً عن عهد عبد الناصر، وبها مقارنة بين ما تركه عبد الناصر وبين ما وصلت إليه مصر في الخمس سنوات الأولى من حكم الرئيس السادات، وكان من رأي هيكل أنّ تجربة عبد الناصر بإيجابياتها وسلبياتها، هي تجربة مصرية عربية إنسانية أصيلة، ومناقشتُها حقّ، لكن إدانتها الشاملة على النحو الذي يجري في مصر وبالوسائل والأساليب التي تتم بها، باطلٌ لا يصح، وأنه لا يصح غير الصحيح. وقد خاض هيكل الكثير من المعارك في حياته وكان يخرج منها منتصراً، حتى خاض معركته الأخيرة مع المرض فانهزم فيها، فغادر الدنيا يوم الأربعاء 17 فبراير 2016، تاركاً إرثاً كبيراً من الوثائق والكتب والمقالات والأشرطة المسجلة، وهو الذي ظلّ طوال حياته بذاكرة شبابية متوهجة.

لقد توالت كتب هيكل ونُشرت على مستوى العالم وبلغات مختلفة، وأصبحت تُدرَّس في أقسام العلوم السياسية في جامعات العالم، وهو ما لم يحققه أي كاتب عربي قبله، كما أنّ جيلاً كاملاً تتلمذ على يديه وقرأ العديد من كتبه، وكان الناس حريصون على متابعة سلسلة أحاديثه في قناة الجزيرة، وكذلك مقابلاته مع لميس الحديدي في فضائية "سي بي سي"، وذلك بعد أن اتجه هيكل لإجراء حوارات سياسية مع الفضائيات، تناول فيها بالتحليل والمعلومات أحداث الساعة وقضايا عديدة.

على المستوى الشخصي، لم أكن أستوعب سبب الحملة الشرسة التي قامت في مصر ضد عبد الناصر، وهي الحملة التي توالت في العديد من الصحف التي تعتمد على "البترودولار"، ولكن ربما كان شرائي لكتاب "لمصر.. لا لعبد الناصر" في تلك الفترة المبكرة من حياتي هو ما جعلني أقرأ كلَّ ما يتعلق بهيكل، وقد ساعدني في ذلك أني استمعت إلى الكثير من مناقشات الأستاذ أحمد الفلاحي - وهو القارئ النهم لهيكل- فتكونت لديّ صورة جعلتني حريصاً على متابعة كلِّ ما يتعلق به، وقد حاولت أن أجري لقاءً هاتفياً مع هيكل في الثمانينيات عندما كنت مشرفاً على برنامج "البث المباشر"؛ وتواصلتُ في هذا الشأن مع د. علي الدين هلال أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الذي نقل لي اعتذاراً لطيفاً من هيكل.

منذ الثواني الأولى لنشر خبر وفاة هيكل، لم يترك الكتّاب والمغردون شيئاً عن هيكل لم يتناولوه، وهذا يصعِّب من مهمة الكتّاب الذين يكتبون مقالات أسبوعية، خاصة إذا كان بين فترة وقوع الحدث ووقت نشر المقال طويلاً، وهو ما ينطبق عليّ وعلي مقالي اليوم، إلا أنّي حاولت أن أبتعد عن التكرار لأنّ الفضاء مليء بكلِّ ما كتب عن هيكل، سواء كان إيجابياً أم سلبياً، ويجب الاعتراف بأنّ الكتابة عن قامة مثل هيكل ليست من السهولة بل هي في منتهى الصعوبة، ولكن ومهما يكن فالرّجلُ له ما له وعليه ما عليه، وسواء اتفقنا معه أم اختلفنا، فإننا لا نستطيع أن ننكر أنّه كان عملاقاً وظلّ ثابتاً على مواقفه لا يتزحزح عنها، وكان جريئاً في قول ما يؤمن به، وكان بحد ذاته مدرسة مستقلة في علوم الصحافة والبحث والتنقيب والتأليف والتأريخ، ومع كثرة خصومه فإنّ أحداً لم يدّع أنّ هيكل كان ضمن كشوفات من استفاد من "البترودولار"، وهو من أخلص لعمله ولم يكن يرضى بأيِّ لقب آخر غير لقب "صحفي".

كلُّ الدلائل تشير إلى أنّ هيكل كان المهندس الحقيقي للإطاحة بالناصريين الذين زج بهم السادات في السجون في 15 مايو 1971م. وفي اعتقادي أنّ هيكل ظنّ أنه يستطيع أن يسيطر على السادات، لذا وقف معه ضد رفاقه، ولكن السادات لم يكن بالشخصية السهلة، وظلت علاقة هيكل بالسادات جيدة حتى حرب أكتوبر 73، وبعدها أعلن هيكل رفضه لطريقة تعامل السادات مع انتصار حرب أكتوبر سياسياً، حيث رأى أنه أعطى لأمريكا دوراً أكبر مما تستحقه، لينتهي الأمر بينهما إلى حد الخلاف، وسُجن هيكل ضمن اعتقالات طالت كثيراً من المعارضين في سبتمبر 1981، ولم يخرج من السجن إلا بعد توليّ الرئيس مبارك الحكم، فكتب بعدها هيكل كتابه الشهير "خريف الغضب"، الذي أثار ضجة كبرى إلى يومنا هذا، إذ رأى البعض أنّه تحليل نفسي مهم لشخصية السادات، ومن خلال التحليل يمكن معرفة كيفية اتخاذه القرارات، فيما رأى آخرون أنّ الكتاب ليس إلا تصفية حسابات فقط، وما يؤسف له أنّ هيكل رحل ولم يكتب عن فترة السجن تلك، لأنها كانت فترة إنسانية هامة في فترة تاريخية حرجة جمعت في السجن بين هيكل وخيرة عقول مصر من سياسيين ودينيين ومثقفين.

كانت علاقة هيكل بمبارك عادية، إلا أنّ محاضرة ألقاها هيكل في الجامعة الأمريكية، عام 2002، تسببت في توتر العلاقة بينهما، عندما قال: "إنّ السلطة شاخت في مواقعها، وهناك مخطط واضح لتوريث الحكم، ومهما كانت الصورة حلوة، فلا بد أن نقول كفاية"، ويرى كثيرون أنّ هيكل هو أيضاً مهندس وصول السيسي إلى الرئاسة، عندما أصر أكثر من مرة أنّ السيسي هو "المرشح الضرورة"؛ لكن السيسي الذي أصبح "الرئيس الضرورة" غاب عن تشييع جثمان هيكل، ممّا أثار تساؤلات حول سبب ذلك الغياب، ربطه البعض بكلام هيكل أنّ السيسي كان عنده تصورات حالمة، لكنّه لم يكن يعرف طبيعة الملفات، ووصف حال مصر بأنّه "تائه" وسط العالم والإقليم. وعلى عكس ما حصل في تشييع هيكل، كان السيسي في مقدمة مشيعي بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الذي أقيمت له مراسم تشييع رسمية حضرها شيخ الأزهر الشريف وكبار رجال الدولة من مدنيين وعسكريين.

لقد عاش هيكل واقعياً في حياته وحتى في مرضه الأخير، إذ كانت آخر كلماته لأبنائه: "الرحلة انتهت، فلا تعاندوا القدر".

تعليق عبر الفيس بوك