عمل المرأة في السلطنة .. الحاجة والتقليد

علي بن مسعود المعشني

شغلتنا في السنوات الأخيرة شعارات وسعارات فكرية تدفع بنا نحو الاشتغال بما لسنا بحاجة إليه أو السابق لأوانه في حراكنا الفكري وحاجاتنا المجتمعية، وهذا من ضرائب ثورة الاتصالات وأعراض القرية الكونية العالمية والعولمة وأخواتها والتي نالت الكثير من المجتمعات الفتية وأربكت أولوياتها وتلاعبت بحاجاتها بصورة كبيرة لقلة مناعتها وضحالة زادها المعرفي والتنموي.

ومن المعروف والمتعارف عليه أنّ حراك المجتمعات وتطورها وأطوارها لا يُملى بقوانين أو مراسيم أو إجراءات، بل تترك لتنمو وتشب وتقوى بفعل حاجات المجتمعات وبدون ذلك تتحول تلك الحراكات المصطنعة إلى معوقات تنموية وفكرية وبؤر صراع مجاني وملاهٍ مجتمعية تحرف المجتمعات عن حقيقة مقدراتها وحاجاتها وأولوياتها في التنمية والنمو . ونحن في سلطنتنا الحبيبة لم نكن شواذا عن هذه القواعد والتداعيات والتقاليع الفكرية والاجتماعية كجزء من عالم يموج بالتدافع والحراك وتغليب المصالح العارية على كل قيمة أخلاقية أو موروث.

فقد شهدنا مُطالبات بأهمية إشراك المرأة في التنمية وعدم تعطيل قدراتها وطاقاتها وجعلها شريكًا فاعلًا في الدولة والمجتمع. وللحقيقة نقول إنّ هذه المطالب والحراك مرت بطورين في عمر نهضتنا المباركة، طور أول في العقدين الأولين من عمر النهضة دفعته الحاجة ومخرجات التعليم وتغير مفهوم ونظرة المجتمع لعمل المرأة ومساهمتها في التنمية وتوظيف طاقاتها وخبراتها وقدراتها فيما يليق بها ويجذبها، فكان هذا الطور سليمًا وعفويًا ونقيًا من كل شائبة أو أعراض جانبية.

حيث توجهت المرأة إلى قطاعات تتناسب مع قدراتها ومكوناتها النفسية والعضوية وبما يحفظ ويتناسب مع عفتها وحياءها كذلك، فكان التوجه الطوعي لقطاع التعليم للإناث وتعاظم هذا الدور ونما طبيعيًا حتى عانى من طوابير الترقب والانتظار في السنوات الأخيرة لغياب التخطيط ولكونه قطاعاً جاذب للمرأة بكل المقاييس.

ثم بدأت الحاجة تدفع بالمرأة تباعًا وبحكم التطور الطبيعي والحاجات الطبيعية ونمو الوعي الفردي والمجتمعي إلى قطاعات إدارية حكومية وخاصة، والقطاعات المصرفية والصحية فالعسكرية والأمنية والتخصصات الفنية.

كانت تلك المرحلة هادئة وتميزت بالنمو التصاعدي المريح ولم ينتابها أي عرض من أعراض الإخفاق أو التذمر أو التصادم والصراع بين مكونات المجتمع.

فيما شهدت المرحلة الثانية الكثير من الشحن والأدلجة والدفع بالأمور نحو التصعيد والصدام بفعل التقليد والتأثر الواضح بدعوات عمل المرأة وحقوقها وفق الفهم والثقافة الغربية، فوقعنا في محاذير ومحظورات لاحصر لها، وانتقلت العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعنا التقليدي الفتي والبسيط إلى علاقة صدام وصراع وتنابز بالأفكار والتشكيك في الخطط والمواقف.

هنا بدأنا نجني ضريبة الانغماس العميق في التقليد الأعمى للآخر وفقدنا الرشد والصواب والسيطرة، ولم تعد لدينا فلسفة واضحة لعمل المرأة ومدى التوافق أو التعارض مع دورها الاجتماعي الأصيل والأول كزوجة وأم حيث طغى الهوس المادي على المشهد مشحونًا بهوس تحقيق الأرقام التصاعدية للوظائف التي تشغلها المرأة في السلطنة لنواجه بها المنظمات الدولية ووسائل الإعلام كي تمنحنا صك براءة من "التخلف والعنصرية" وصك آخر بالتحرر والعصرنة.

بطبيعة الحال نحن مجتمع شرقي ومجتمع ذكوري ولن يتحوّل مجتمعنا إلى غير ذلك ما لم يتغير موروثنا وثقافتنا، ولن نصبح غربيين في يوم ما كما لن يصبح الغربي شرقي في يوم ما، فالثقافات ليست قناعات أو ملابس يُمكن تغييرها واستبدالها في أيّ وقت وحين، بل هي نتاج موروث ديني وقيمي عميقين لأيّ مجتمع وليس من اليسير تجاوزها أو إلغائها وتحت أيّ مُبرر كان.

من هنا علينا الاعتراف بأنّ عمل المرأة وبالطريقة الهوجاء "المنظمة" أورثنا الكثير من المظاهر والأعراض غير الحميدة والتي تُنذر بطبيعة الحال بتشظي المجتمع تدريجيًا بدءًا من تفسخ الحاضن والنواة الأولى له وهي الأسرة. فجعل عمل المرأة كفرض عين على كل امرأة متعلمة زاحم الذكور بالدرجة الأولى وهم وفق ثقافتنا المعنيون بالإنفاق والمسؤولية الاجتماعية للأسرة، وأضعف حاضن الأسرة وحصانتها لغياب الأم والزوجة لساعات عمل طوال وخلافة الخدم، وغيب قدسية الحياة الزوجية إلى الحضيض حيث أصبح عمل المرأة من أسباب العنوسة والطلاق وفق أرقام وإحصاءات المحاكم ومؤسسات الإحصاء الرسمية.

نعم نحن بحاجة ماسة إلى المرأة في قطاعات وظيفية بعينها كقوة عمل، ولكننا بحاجة ماسة أكبر إلى المرأة الزوجة والأم قبل كل ذلك، خاصة إذا أصبح الخيار والمفاضلة بين العمل وقيم الأسرة والحياة الزوجية وصناعة الأجيال.

مشكلتنا الحقيقية أننا أوغلنا كثيرًا في بسط ثقافة عمل المرأة مقابل التقتير الواضح في ترسيخ معاني المرأة والزوجة والأم لهذا فمن الطبيعي جدًا والمتوقع أن نخسر نساءنا وأدوارهن الاجتماعية المرجوة حين نجعل من ربة البيت عورة اجتماعية ما لم نتصالح مع ذواتنا وبيئاتنا وموروثاتنا قبل فوات الأوان، خاصة وأننا مجتمع صغير وفتي وبحاجة ماسة إلى كل عنصر ومكون فيه دون إفراط أو تفريط. نحن بحاجة ماسة إلى خطوة شجاعة ومراجعة عميقة اليوم لعمل المرأة وتقييمه بكل تجرد وحيادية وبمقاييس العمل والإنتاجية والحاجات الوظيفية الفعلية والمسؤولية الاجتماعية للدولة تجاه رعاياها ولكل قطاع بعيدًا عن المؤثرات الخارجية والثقافات والشعارات المستوردة، كي نتصالح مع واقعنا وذواتنا ونراعي مصالحنا ومصالح وطننا ومجتمعنا، بعد 45 عامًا من عمر نهضتنا المباركة.

ونحن بحاجة ماسة كذلك إلى تشريعات جديدة وفاعلة ومرنة تمنح الخيارات للمرأة العاملة بالتقاعد المبكر والحضانة لعامين بنصف راتب كمثال، وبحاجة إلى تشجيع ومفاضلة المرأة المؤهلة علميا والمترقبة لوظيفة لمكافأة مالية مقطوعة تعادل نصف راتب مع أحقية الانتفاع بالتقاعد كمثيلاتها العاملات في حال عدم رغبتها في الالتحاق بوظيفة والارتباط بدوام رسمي، وتطلعها للتفرغ لشؤون أسرتها مع تيسير حياتها وتغطية نفقاتها ومصروفاتها وتحفيزها وتشجيعها بتلك المكافأة المقطوعة، والتي ستُقلل الكثير عن كاهل الدولة والمجتمع في النفقات والأعراض والظواهر المرتقبة . لانحتاج إلى المزيد من سياسات الهروب إلى الأمام حتى تطوق أعناقنا الاستحقاقات والمزيد من المكاسب والحقوق القانونية للمواطنين ونجد أنفسنا غارقين في مشكلات كنّا في حلٍ منها في مراحل زمنية بعينها، فما هو ممكن اليوم قد لا يصبح كذلك بعد حين. فالعنوسة والعزوبية تنتشران بين شبابنا بتصاعد مخيف، والطلاق أصبح من السمات البارزة في مجتمعنا لغياب قدسية الحياة الزوجية وعدم تطور ثقافة الأسرة، والمواليد في تناقص ملحوظ نتيجة الزواج المتأخر بعد سنوات الدراسة والعمل، والتربية والتنشئة الصالحة للأبناء تتراجع بقوة، وعصب جميع هذه الظواهر والمشكلات هو عمل المرأة وبدون ضوابط، وفوق كل هذا ندعي ونردد: بأن الأمور طيبة !! .

قبل اللقاء: التطور لا يعني الخروج على الموروث بمعاول الهدم وتقليد القوي والمنتصر، بل بمحاكمة الموروث وصونه بما يتواءم ومقتضيات الزمان والمكان.

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك