العدو الوهمي

أسماء القطيبيّة

يحكي إميل سيوران أنّ عالِم أجناس ومصورًا فوتوغرافيا زارا إحدى القرى التي يسكنها الغجر، وبعد الحديث مع الناس وملاحظة طبائعهم طلب العالِم من الناس التجمّع من أجل التقاط صورة توثيقية. وحين لم يكن الغجر قد شاهدوا كاميرا من قبل، فقد اعتقدوا أنّ الرجلين يسعيان لسرقة أرواحهم، فما كان منهم إلا الانقضاض عليهما ضربا وركلا بحيث إّنهما لم يستطيعا الإفلات من الغجر إلا بصعوبة شديدة. وفي نفس السياق يحكي لي والدي عن بداية ظهور السيّارات رباعية الدفع في القرى العمانيّة حيث وصل خوف الناس من هذه (الدواب التي تمشي بأربع ولا تأكل العلف) حد أنّهم كانوا يرمونها بالحجارة لتبتعد عن أراضيهم. هاتان القصتان اللتان حدثتا في مكانين وزمنين مختلفين ما هما إلا ترجمة لمقولة "الإنسان عدو ما يجهل". فالخوف من التعامل مع أي شيء جديد هو إحدى طبائع الإنسان التي يحمى بها نفسه من الأخطار المحتملة. ولقد كان الإنسان في العصور الأولى في استعداد دائم للعراك مع أي كائن يقترب منه، سعيا للحفاظ على بقائه. وقد طوّر أساليبه عبر الزمن بحيث جهز نفسه بسدود منيعة وأسوار عالية وأسلحة فتاكة من أجل مزيد من الحماية.

وقد مجد القدامى الشجاعة واعتبروها اسمى الخصال التي لا يتحلى بها إلا القلة الذين يمتلكون روح المغامرة والجرأة التي تؤهلهم لخوض المجهول المكتنف بالأخطار واحتمالات اللاعودة، متغلبين على وساوسهم ومخاوفهم. وبهؤلاء الشجعان انتصروا في الحروب، ووصلوا إلى أراض يجهلونها. وخلدت أمجادهم بين الأمم. ومثل ما ذكر التاريخ الشجعان أقوياء البنية فقد ذكر شجعانا من نوع آخر. وهم الرسل والمصلحون والعلماء الذين أتوا بأفكار ونظريات مغايرة لما ألفه الناس. ورغم قوة حججهم ومنطقيتها فإنّ الناس تلقوها - في بدايتها- بالتكذيب والإنكار لغرابتها ومخالفتها المألوف. مما عرض أصحابها إلى النبذ والنفي والقتل في بعض الأحيان.

أمّا اليوم، ورغم سعي الإنسان إلى التطور وتحسين نمط العيش، فإنّه مازال ممتلئًا بالخوف والحذر من التجارب الجديدة. فعلى سبيل المثال ما يزال يتعامل مع التقنية بشك وريبة تزيد وتنقص حسب مقدار وعيه. ودليل ذلك في مجتمعاتنا أنه و بظهور أي تقنية جديدة يبدأ الناس في تداول العبارات التي تحذر من استخدامها مرة باسم الدين، ومره باسم المحافظة على الصحة ...إلخ، ولابد أنك عزيزي القارئ ستبتسم بسخرية وأنت تتذكر التحذيرات التي رافقت ظهور الدش والبلوتوث وغيرهما. هذه التحذيرات التي استطاعت أن تصنع للناس عدوًا وهميا سرعان ما أصبح صديقا دائما بعد أن أخذ الناس وقتهم في التعرف عليه.

ولأنّ الإنسان عدو ما يجهله فإنّ من الخير له أن يتجاوز حاجز الحذر بينه وبين ما يجهله ليزيح الغموض الذي يخلق له عدوًا وهميا، وبالتالي يتجاوز الخوف من التعامل معه. فالتعامل مع الخوف والشك لا يقل صعوبة عن التعامل مع عدو لا وجود له إلا في ذهن صاحبه. ولا بأس أيضا من المغامرات والتجارب التي تعطي للمرء شعورًا بالحرية لا يتيحها له الاحتماء الدائم تحت سقف التجارب المضمونة. فلولا الأفكار المغايرة، والتجارب الجديدة لما تقدمت البشرية، وسعت نحو تحقيق حياة أفضل لها وللأجيال القادمة.

والقضاء على العدو الوهمي مهم بصورة كبيرة في علاقات الشخص مع الآخرين، فكم مرة افترضنا سوء الظن بآخرين رغم عدم تعاملنا معهم كتوقع مسبق أتى به عقلنا اللاواعي أو نقله لنا شخص آخر، ولعلنا سنجنب أنفسنا الافتراضات الخاطئة والمشاعر السلبية لو أننا تعاملنا مع الشخص مباشرة لنكتشف الحقيقة كما هي لا كما رسمناها في مخيلاتنا. والقضاء على العدو الوهمي ينطبق أيضا على علاقة الشخص مع نفسه، فكلما حاول فهم نفسه، ومعرفة ميوله ونقاط القوة والضعف فيه، كان أكثر تكيفًا وانسجامًا، وأقدر على التحكّم في حياته وإدارتها، والعكس.

asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك