تنويع الاقتصاد

د. صالح الفهدي

 

 سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (33) 

 

منطقة الدقم أكبرُ من مساحة دولة سنغافورة بثلاثِ مرّاتتقريباً، إذ إنّ مساحةُ الأولى في حدود 1777 كلم، أمّا الثانية ففي حدود 700 كلم..! نتطلّع إليها نحنُ العمانيين على أنّها مدينة من مدن المستقبل العُماني الحافل بالتنوع الاقتصادي والنمط المعيشي العصري الذي يزيده إثراءً وجود تمازج ثقافي مختلف يمكن أن يُشكّل فسيفساء ذات رونقٍ فريد.

الشركات السنغافورية تنظرُ إلى الدقم على أنّها نموذج آخر لسنغافورة عربية تطل على بحر العرب، وتصبح بموقعها الإستراتيجي - كما هو موقع سنغافورة - لاعبةً عالمية في الخدمات اللوجستية، فما أعظمه من تطلّع بالنسبةِ لنا.

ما الذي نحتاجهُ لنحقق حلماً عظيماً في أن تكون مدينة الدقم التي كانت منطقة صيدٍ نائيةٍ عن لمسات العصر الحديث، إلى إمكانية أن تشبه سنغافورة الشرق الأوسط..!! أقول: إنّ ما نحتاجهُ ليس ضخُّ الأموال الهائلةِ في بنيتها الأساسية بل وجود قيادات تنهلُ من مدرسةِ لي كوان يو مؤسس سنغافورة أفكارها ومنهجها، وكفاءات تشبهُ تلك التي انتقاها، ومناهجَ تعليم عصريّ، يتطلع إلى المستقبل أكثر بكثير مما يعيشُ الماضي، ويعزفُ على أوتاره..! لقد فعلت إدارتها خيراً بالاستعانة بسنغافورة خبرةً وتخطيطاً وعملاً، إنّما الدقم ليستَ ميناءً ولا حوضاً جافاً بل هي أشبهُ بمدينة فيها مقوّمات الدولة، لهذا فإن لم ننظر لها على أنّها نموذج عُماني لصورة المستقبل العماني المشتمل على عناصر مكينة في جميع المجالات، والقائم على التجارب السابقة للدول المتقدمة وعلى رأسها سنغافورة، والمستقطب للاستثمارات الكبيرة فإنّ هذا المشروع الوطني سيُعاني من العثرات والتباطؤات ..!

إنّ أول ما يحتاجهُ كل مشروع عظيم هو الإنسان قائداً ملهماً، ومديراً مرشداً، وعاملاً منفذاً، ولهذا فإنّ أول مهمة لتحقيق ذلك تتطلب إعداد البشر قبل الإقدام على تنفيذ المشروع..! الإنسان المُعدُّ إعداداً مؤهلاً سيساعدُ على وضع رؤية مستقبلية بمقومات النجاح، كما أن ما يحتاجهُ كل مشروعٍ عظيمٍ مثل هذا هو الإرادة القوية التي تُذلل الصعاب، والعمل بجهدٍ وصبر.

السؤال الكبيرُ هو: ما الذي نُريدهُ من مشروعٍ كهذا؟! وما هي آثاره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الوطن؟ إجابة هذا السؤال تحتاجُ ليس إلى مؤتمراتٍ وحسب بل وإلى بيوت خبرةٍ عالمية ذات نظرات بعيدة المدى في مستقبل الأوطان، وطرق نمائها، وعناصر تطويرها.

أتى أوان هذا الحديثِ في وقتٍ تهاوت فيه أسعارُ النفط، والنفطُ هو عصبُ الحياةِ لأوطاننا، به ربطت مصائرُ التنمية، وعليه اتكأت رهانات البُنى، وضمانات المستقبل..! مرّت الأعوام تلو الأعوام والتكهنات بشأن نضوبهِ أو انخفاض أسعارهِ تتزايد، بينما لم يقابلها ارتفاعٌ في المنحى الآخر؛ منحى البحث عن بدائلَ تعوّض عوائده. إنّما ليس هذا أوانُ الهرجِ والمرجِ فيما كان من المفترض أن يكون ولم يكن، بل هو وقتُ الاستيقاظ من الغفلةِ، أو التراخي، أو التسويف..!

لقد علّم يوماً ما والدٌ أبناؤه حكمةً رجى بها أن تكون لهم درساً يبقى في عقولهم قبل أن يفارقهم وهو أن كسر العصا الواحدةِ سهلٌ جداً بينما اجتماعُ العصيِّ يجعل من الكسر أمراً غير يسير..! وهو مثالٌ يمكنُ أن نقيسَ به أحوال المعايش الإنسانية في أن الاعتماد على مصدرٍ واحدٍ يمكنه أن يُعرّض الأوطان إلى نتائج وخيمةٍ لا تدرك أبعادها، بينما التنويع في مصادرِ دخلها يضمنُ لها تكيّفاً في المعايش، وسعةً في الأرزاق. الأمر الذي لم تعمل له دولنا ليس إيجاد مصادر دخلٍ بديلةٍ فحسب بل وتهيئة الناس لمرحلةٍ كهذهِ، حيث رسخ في قناعاتهم بأنّ الحياةَ دون النفطِ إنما هي عودةٌ إلى الوراءِ كما كان شأنُ الماضي البعيد..!! بل إنهم لا يستطيعون حتى مجرّد تخيل الوضع المعيشي دون عوائد النفط! ففي محاضرةٍ له يقول محمد جاسم الغتم رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث: "إن هناك حالاً من القلق عندما يفكر بعض السياسيين والباحثين في صورة عالمنا بعد اختفاء النفط في ظل عدم وجود بدائل عملية ومؤثرة للطاقة التي يعتمد عليها العالم بأسره في جميع أوجه الحياة اليومية".[1]، فإذا كان القلق ينتابُ قلوب السياسيين والباحثين فكيف هو حال المواطن البسيط..!!

كذلك لم تغيّر الحكومات القناعات الشعبية السائدة بأن المؤسسات الحكومية لن تستطيع أن تقوم بتحمّل أعباء الصرفِ على الوظائف المتزايدةِ عليها..! في الجهةِ المقابلة ترتفع نسبة السكّان مشكّلةً تحديّاً تنموياً غير متكافئ مع الوفرة المالية، والبنى اللازمة. وقد ورد في سياق تقرير صادر عن شركة (آسيا كابيتال الاستثمارية): "أن دول مجلس التعاون الخليجي في معظمها تواجه تحديات مرتبطة بتطورها الديمغرافي وهيكلها الاقتصادي المعتمد على النفط، متوقعاً استمرار النمو السريع في التركيبة السكانية بتلك الدول"[2].

لقد ظللنا نتغنى بالسياحةِ لفتراتٍ طويلةٍ، وبإسهام هذا القطاعِ الحيوي الواعدِ في الناتجِ القومي، وما تحفلُ به أوطاننا من مقومات سياحيّةٍ ذات جاذبيةٍ ساحرةٍ للآخرين.. ولكن ماذا تحقق في الواقع؟! أينَ هي المواقع السياحية التي تشتملُ على ما تتطلبه السياحة من مقوّمات؟! لقد اصطحبتُ ضيوفاً إنجليز منذ سنوات وتمنيتُ طول الخط البحري الممتد من قريات إلى صور أن أجدَ ما يلفتُ النظر غير الطبيعية..! تمنيتُ أن أقف في قلهات فأرى فيها شواهد التاريخ، وآثاره الماثلة، وقصصه العظيمة في هذه المدينة التي تناوبت على سكناها أمم وحضارات..! تمنيت أن أجدَ متحفاً بحريّاً في مدينةِ صور هذه المدينة التي عرفت بتاريخها البحري العريق..! تمنيت أن أجدَ في بني خالد مقومات حيويّة ذات صبغةٍ عصريّة تحيطُ بتلك البرك المائية الطبيعية..! ولولا أنني وجدتُ في رمالِ الشرقيةِ ومخيّماتها الراقية، وفي مدينة نزوى وقلعتها ومتحف القلعة ما يؤنسُ القلبَ، ويحرّك العقل، لعدتُ خالي الوفاضِ مع ضيوفي..! لستُ أدري ماهية العوائق وراءَ ذلك إنّما السياحةُ تحتاجُ لبناءِ أُسسها المتينة، وأركانها المكينة، إلى كفاءات ذات وعي وقرار وخبرة بهذا القطاع، إضافة إلى موازنات ضخمة تضخُّ في بنيتها الأساسية، وتحتاجُ إلى الوسائل الإعلامية النافذة التي تمتلك القدرات على الترويج للسياحة داخلياً وخارجياً.

ما الذي فعلناه في خلق اقتصادٍ موازٍ - لا أعني هنا قطاع المؤسسات الصغيرة - اقتصادٌ يخفف الاعتماد على النفظ والغاز ليس بصفتهما موردان ناضبان وحسب بل لكونهما خاضعين لتقلبات السوق، وللتجاذبات السياسيةِ والاقتصادية..! أينَ هي مشاريع الطاقة البديلة؛ النووية والشمسية وطاقة الرياحِ والموج وغيرها مما يعرفها المختصون ؟! يتحدث محمد حسين طلبي عن عالم الفضاء فاروق الباز فيقول:" ما يزال ومنذ أكثر من أربعين سنة مضت يجهد نفسه ويجوب البلاد العربية دافعاً إياها إلى الاستقلال في هذا النوع من الأبحاث الخاصة بالمنطقة وبالأخص أن العالم مقبل بأجمعه على أزماتٍ وحروب مياه مستقبلاً، والمياه عندنا في قلب صحارينا التي تعتبر ليس فقط خزانات للنفط وللمياه الجوفيه التي بدأنا كما يبدو من خلال بعض المحاولات الاقتراب منها بل هي كذلك خزانات عظيمة في الكثير من أجزائها لطاقة لا نهائية هي الطاقة الشمسية بالإضافة إلى كونها منابع التربة الصالحة للزراعة"[3].

لا يمكنُ لبلدٍ ما أن يعقدَ الرهانَ على مواردَ ناضبةٍ، أو خاضعةٍ للمتغيرات، والتقلبات والمصالح أياً كان نوعها، لذلك سعت بعض البلدان إلى تنويع اقتصادياتها، وخلق اقتصاديات موازية استطاعت أن ترفدها بعائدٍ مربحٍ من قطاعات مختلفة. لا غنى لدولنا عن هذه السياسة؛ سياسة تنويع الاقتصاد لكن وحسب ما يخلص الباحث Martin Hvidt في بحثه حول "التنويع الاقتصادي في دول الخليج: الملفات الماضية والتوجهات المستقبلية": أن عملية التنويع لا تشمل فقط الاستثمارات الإستراتيجية في الأصول الاقتصادية، والبنى التحتية، والتعليم، إنما أيضاً - وهذه تحديات سياسية- الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية من أجل إعادة إنشاء الروابط بين الجهد والمكافأة في الحياة الوظيفية للمواطنين من أجل الاستثمار الأمثل للموارد البشرية"[4].

ها نحنُ إذن نقفُ - تاريخياً وتنموياً- أمام مفترق طرقٍ تتخايل أمامنا أطيافُ المصير، والمستقبل، والأجيال القادمة، إلى جانب الفرص التي تستبطنها هذه الأرض المليئة بالأسرار والمحتاجة إلى فكرةٍ، وجرأةٍ، وقرارٍ، وعمل لكي تبوح بما ألقى الله فيها من نعم وسخرها تحتاجُ إلى عقول تتفكرّ فيها، قال الخالق القدير "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "(الجاثية/13).

 

 

 

 


[1]جريدة الوسط العدد 953 - السبت 16 أبريل 2005م الموافق 07 ربيع الاول 1426هـ

[2]http://www.alaraby.co.uk/economyالعربي الجديد الإلكترونية

[3]جولة مع فاروق الباز، مجلة الرافد، دائرة الثقافة والإعلام، إمارة الشارقة، عدد يناير 2016

[4]Martin Hvidt,Economic diversification in GCC countries: Past record and future trends

تعليق عبر الفيس بوك