المطرودون من الجحيم

رحاب أبو هوشر

ربما يتعطل السير في شارع مزدحم، للفرجة على مشهد مثير، لرجل ينقض على امرأة ضربا وصفعا، لكننا لن نعثر على أحد يهرع لإنقاذها من يديه. ستثير الواقعة فضول العابرين وحسب، ويتبادلون تأليف السيناريوهات حول طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وسيرجحون غالبا بأنه زوجها أو أخوها أو أحد ذكور العائلة، وبأن المرأة لا بد فعلت ما استحقت عليه الضرب! لن يتدخل حتى رجل الأمن، لمنع الاعتداء، إلا إذا تقدمت المرأة بشكوى لاحقا، أمّا خلاف ذلك، فإنّ انتهاك إنسانيّتها وحياتها، شأن خاص عائلي!

وفي مشهد آخر، هناك رجل يجرجر طفلا من ياقة قميصه. يركله ويصفعه ويشتمه صارخا. من المؤكد أنّه والده، فلا يجرؤ أحد على الاعتداء على طفل، على هذا النحو العلني إلا قريب، أخ أو أب أو ما شابه. ربما يهرع نحوهما رجل أو اثنين من المارة، سيتحدثان بحذر واستعطاف إلى الرجل، لعلّه يكف عن ضرب الطفل، بينما يقف عدد من المارة للفرجة واستطلاع ما يدور. بعضهم ستثير قسوة الرجل على طفله غضبه، ويصب عليه اللعنات، وينعته بأقبح الصفات، وغيرهم سيتحدثون عن حقه بتأديب ابنه، ولكنّهم يستهجنون إفراطه بالضرب، ثم يتفق الجميع على أنّهم لن يكونوا أرأف به من أبيه، وأنّ أبوه "حر" بالتصرف معه، ثم يمضون جميعا في طريقهم، ولو كان الضرب والشتم "عاديا"، لما لفت انتباه أحد!

يتكرر المشهد في شارع عربي آخر، أو في نفس الشارع، ولكن من بوابة مختلفة، فالأم التي لا تتواصل مع ابنتها الصغيرة يوميا إلا بلغة الإهانات والصفع، تتعارك مع امرأة أخرى، لأنّها دفعت الطفلة فوقعت وأصيبت بخدش طفيف. ستلقي الأم بيانا عن الأطفال وكيفية التعامل معهم، وتكفكف دموع ابنتها وتحتضنها حتى تهدأ، بينما تواصل تعنيف تلك المرأة الخشنة.

لا يرفض الناس العنف من حيث المفهوم والوظيفة، وعلى اختلاف ردات فعلهم السالفة، فهي لا تخرج عن إطار ثقافة اجتماعية ترى بأنّ الأبناء والنساء ملكية للعائلة، ولا يحق لأحد اختراقها، فالقمع تربية وعقاب، والضرب والإهانة حق عائلي وليس اعتداء، وإن سالت دماء وكسرت أعضاء، وكل ذلك لا يعد إهانة لكرامة الإنسان.

ورغم السيل الإعلامي في السنوات الأخيرة عن الحرية والكرامة، وتكرار لازمة "حقوق الإنسان"، بما ينبئ عن تحول وإن كان طفيفا نحو زيادة الوعي الاجتماعي بتلك المفردات، بإنسانيتهم، وفق معاناة الناس على الأقل من قهر الاستبداد السياسي، وما يتعرضون له من عنف وإهانة أجهزته الأمنية، إلا أنّ غيابها عن الشارع العربي، لم يكن بهذا السفور في أي وقت مضى.

يركض أطفال خرجوا مع جموع الطلاب من المدرسة، نحو شخص جالس على الرصيف، تدل هيئته القذرة وحركاته الهائمة في الهواء، على كونه مختلا عقليا، وسرعان ما اتخذوا منه وسيلة للتسلية. أضحكتهم هيئته، وأنّهم قادرون على إخافته. اعتدوا عليه بالضرب. رموه بالحجارة، ورشقوه بعلب ماء وعصير كانوا يحملونها. أحدهم يعبث بشعره ووجهه بعصا، وآخرون يشدونه من ملابسه، وكلما علا صوته مهمهما مذعورا ارتفعت ضحكاتهم. وإذا حاول التخلص منهم، تحلقوا حوله وسدوا عليه الطريق، وهم غارقون في الضحك! والناس من حولهم يسيرون، بعضهم يلتفت ويبتسم كما لو أنّه يشاهد مشهدا كوميديا، وكثر لا يلتفتون، ومن يلتفتون يخلطون ابتساماتهم بغمغمة كلمات تنهي الأطفال شيئا لوقف تعذيب ذلك الإنسان، ويكتفون بغمغمة كلمات من قبيل: لا يجوز هذا، عيب. رجل واحد يسرع نحو الأطفال، ويأخذ بإبعادهم عنه، ويقول لهم: إنه إنسان مثلكم، وكلكم معرضون أن تكونوا بحالته.

ذلك كان مقطع من برنامج تلفزيوني عربي، يرصد ردات فعل الناس حول ظواهر اجتماعية، يجعلنا نتحسس رؤوسنا من هول سلبيّة المجتمع وافتقاده حس المسؤولية الجمعية، ويؤكد على جوهر ثقافتنا غير الإنساني، مهما علت الأصوات المنادية بالحرية والكرامة، فوعي الظلم يختلف تمامًا عن وعي الحرية. الأول يتماهى مع شروط قهره، ويعيد إنتاج الاستبداد والظلم واحتقار الحياة، أمّا الثاني فينتج إنسانا مؤمنًا بالحياة وبالإنسان كقيمة بحد ذاته. لم يظفر المقطع الطويل إلا بذلك الرجل، منقذًا لما تبقى من إنسانية المجتمع، فمنحه جائزة على سلوكه، وهذه دلالة مهمة على عمق أزمتنا ثقافتنا الاجتماعية.

مشاهد متكررة في الشوارع العربية، تعكس انتهاكات الحياة "المألوفة" اليومية، التي تشرعنها ثقافة اجتماعية ثقيلة بتخلفها وبدائية مفاهيمها، تسحق قيمة الإنسان ومنظومة حقوقه، تستقوي على الضعفاء، وتطرد من جحيمها العاجزين.



تعليق عبر الفيس بوك