التجربة الكورية وبناء الإنسان

حميد السعيدي

Hm.alsaidi2@gmail.com


المواطنة هي شعور الفرد بحبه لوطنه، واعتزازه بالانتماء إليه، واستعداده للتضحية من أجله، وإقباله طواعية على المشاركة في خدمة المجتمع سواء كان عبر مشاركة فردية أو جماعية، من خلال الدور الذي يقوم به في المؤسسات والجمعيات الأهلية والمهنية، والقيام بالأعمال التي تتطلب منه خدمة الوطن بما يتمتع به الفرد من حقوق وواجبات يفرضها عليه ذلك الانتماء، وكل مواطن لديه ما يمتلكه من مقومات تعزز المواطنة وتدفعه للعطاء من أجل الوطن، ولكن هذه النظرية تصطدم بالواقع فعندما تستمع أحيانا للأقوال وتشاهد الأفعال التي تتطرق للعمل الوطني تجد أن هناك خللا ما في المنظومة الوطنية، فالكثير ما زالت نظرته سلبيه تجاه ما يقوم به من واجب وطني، ويفتقد للمعيارية والأمانة، وكأن ما يقوم به مرتبط بمؤسسة يحصل من خلالها على العائد المادي، دون أن يدرك أنّه بهذا العمل فهو يقدم خدمة للوطن، فكلما ارتفع مستوى الأداء أنعكس ذلك على التنمية الاقتصادية، فالانجازات التي تحققت لدى الدول المتقدمة لم تأت من خلال الأماني والأحلام، وإنّما جاءت بالعمل الجاد الذي أخذ جزءا كبيراً من وقتهم وجهدهم، وضحوا بالكثير من أجل أوطانهم، مما أكسبهم ميزة المهنية بالعمل والجدية بالعطاء، فكان ثمار ذلك أن تصدروا قائمة الدول الاقتصادية، وهذا نتيجة وجود رغبة للتضحية من أجل الوطن نابعة من الإرادة الوطنية والرغبة في تحقيق التنافسية، ومن يمتلك هذه الإرادة فهو القادر على الوصول إلى مستوى عال من الإنجاز في العمل، وتحقيق الأهداف بجودة العالية، وهنا تكمن المواطنة الفاعلة في المجتمع، والعكس من ذلك فمن لا يمتلك الإرادة الوطنية فهو يصبح رهينا للمؤثرات الداخلية والخارجية، ومتأثرا بما يحيط به من عوامل تجعله فردا غير منتج، تتحكم فيه العديد من الضوابط وتجعله شخصاً اتكاليا غير راغب في بناء وطنه، بل ويسهم في تكوين فكر لدى الآخرين من منطلقات سلبية تعكس سوء الإنتاج للمؤسسة التي ينتمي إليها.

إنّ الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في كيفية تسخير الإمكانيات البشرية في بناء اقتصادها تمثل خطوة رائدة تمكن الدول الناشئة من إعادة بناء ذاتها، وهذا ذات النهج الذي انتهجته العديد من دول العالم في الاستفادة من خبرات الدول الأكثر تقدما، وتمثل تجربة كوريا الجنوبية نموذجاً ناجحاً في مجالات متعددة، فيما وصلت إليه من تقدم مكنها من تحقيق نمو اقتصادي خلال فترة وجيزة، حيث انتهجت منظومة وطنيّة اعتمدت على ثلاثة مبادئ أساسية "الاجتهاد، الاعتماد الذاتي، التعاون" بهدف تطوير المجتمع الكوري وتنويع الموارد ورفع المستوى الاقتصادي، والدخول إلى مجتمع الدول المتقدمة؛ فبعد 40 عاما من هذه الحملة تصدرت كوريا قائمة القوى الاقتصادية واحتلت المرتبة الخامسة عشرة عالمياً، وأصبحت ضمن نادي الكبار، بالرغم من أنّها تعاني من إشكاليات متعددة، من حيث ارتفاع الكثافة السكانية، وصغر المساحة، وقلّة الموارد الطبيعيّة، وكثرة الأراضي الجبلية، والصراع العسكري مع جارتها كوريا الشمالية، ولكنّها تمتلك أقوى مورد اقتصادي وهو القوة البشرية، حيث سخرت كل إمكانياتها في استثمار رأس المال البشري بصورة حقيقية وجدية، نتج عنها بناء قوّة عمل هائلة ومهارات عالية في مجالات متنوعة خاصة الصناعات التقنية والابتكاريّة، القائمة على التحدي والمنافسة للسيطرة والتحكم في السوق العالمية، وما ميز نجاح الأداء المواطن الكوري هو تبني العديد من الشعارات الوطنيّة التي تهدف لتحفيز المواطن للعمل من أجل الوطن وكان الشعار الأكثر تأثيراً هو "إعلاء المصلحة العامة على المصلحة الخاصة" وهذا ما أدّى إلى تكاتف الجهود الوطنيّة رغم انخفاض دخل الفرد في تلك الفترة إلا أنّ ذلك لم يثنِ المواطن عن القيام بواجبه، فالعمل بالاجتهاد، والاعتماد الذاتي، والتعاون، كلها أسهمت في تدفق تلك القدرات البشريّة المكنونة لتصبح واقعا من خلال ما انتجته من ابتكارات وإبداعات فكريّة، تجسدت في صناعة اقتصادية متنوعة، أثبتت تواجدها في السوق العالمية، ولكن هذه الرؤية الوطنية لم تكن العصا السحرية التي أحدثت تلك النقلة النوعية في الحياة، ولكنها تعتبر طريق العبور للوصول للغاية.

العودة للتفكير في كيفية بناء الإنسان هي مطلب وطني، لأنّه ثروة وطنية يجب أن تتم إعادة بنائه وتربيته بالطريقة المثلى التي من خلالها نعبر نحو المستقبل الذي ننشده، لذا علينا التفكير في بناء منظومة تعليمية ودينية ووطنية قادرة على تحقيق الأهداف السامية والغايات الوطنية العليا، حيث لا يمكن اليوم القبول بالمستويات المتدنية من الأداء، أو السكوت عن الإخفاقات المتكررة في العمل الوطني في جميع المؤسسات الخدميّة، فما وصلنا إليه يعطي العديد من القراءات عن قبولنا عن الوضع الحالي الذي أصبح واقعا مؤلمًا، لأنّه يمثل استنزافًا للثروات الوطنية دون الحصول على العائد المنشود.

 

تعليق عبر الفيس بوك