مشروع التيار المدني البحريني: دور الدولة

عبيدلي العبيدلي

في خطابه الذي وجَّهه في العام 2015 بمناسبة احتفال المجتمع الدولي باليوم العالمي للديمقراطية، قال الأمين العام للأمم المتحدة إنَّ "المجتمع المدني هو أكسجين الديمقراطية"، في إشارة واضحة إلى العلاقة الحميمة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني، وأنه متى ما توفرت البيئة الصحية لبناء علاقة تقوم على الثقة والتكامل بين الاثنتين تتحقق الأهداف المشتركة العاملة من أجل مجتمع مستقر بحوزته محفزات التقدم نحو إرساء قواعد راسخة لتحقيق النمو الاقتصادي والتقدم السياسي، وصولا إلى الاستقرار الاجتماعي. وتتكرس بفضل ذلك كله قيم المعادلة الصحيحة التي تنظم العلاقة بين الدولة والقوى السياسية النشطة في المجتمع.

وهنا يبرز عنصر مشترك بين التيار المدني والدولة، على نحو عام، وفي البحرين بشكل خاص؛ حيث تقتضي المصلحة العامة المشتركة أن يعمل الاثنان: الدولة والقوى السياسية على توسعة هامش مشاركة منظمات المجتمع المدني في مشروعات البناء السياسي، والتخطيط الاقتصادي، والبرامج المجتمعية.

وقد كُتِب الكثيرُ حول علاقة الدولة بمنظمات المجتمع المدني؛ فهناك من يعطيها بُعدًا فلسفيًّا تاريخيًّا، كما نراه في اجتهادات د.هشام يونس، عند تناوله "العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في الواقع العربي الراهن"؛ إذ نجده يعود إلى "التعريف الخلاق لـ"هيجل"، حينما اعتبر الدولة تحقق "للأخلاق الفردية"، ومن ثم الجماعية، هدف تبلغ فيه الحرية تحققها الأعلى"، مؤكدا على أن "(مبحث الدولة) هو حكماً مبحث أخلاقي؛ حيث لا تظهر الدولة في "الأخلاق المجردة"، بل ليس في مقدورها أن تظهر لأنها تقتضي شروطاً واكتمال عناصر لا تتوفر إلاّ في"الأخلاق الاجتماعية" الفعلية، حيث فيها وحدها يكون للإنسان وجود عاقل". ثم يستخلص من كل ذلك أنه "حين يؤسس المجتمع المدني بالتفويض لقيام الدولة واستمرارها تعود الدولة لتشكل راعياً وحافظاً للمجتمع المدني؛ لهذا ذهب هيجل إلى أنَّ الدولة هي الأولى، والمجتمع هو في المرتبة الثانية، لأنه في حضن الدولة فقط تستطيع الأسرة أن تتحول إلى مجتمع مدني".

وفي السياق ذاته، وعلى نحو تفصيلي، تتناول أستاذ العلوم السياسية المساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية هويدا عدلي، هذه المسألة في دراستها "فعالية مؤسسات المجتمع المدني وتأثيره على بلورة سياسة إنفاق للخدمات الاجتماعية"، هذه المسألة. مؤكدة "أنَّ تحليل دور المجتمع المدني في عملية صنع السياسة بأبعاده وحدوده وتقييم مدى فاعليته، مرهون بطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، هل هي علاقة متبلورة تقوم على الثقة والاعتماد المتبادل بين الطرفين؟ أم علاقة ما زالت في طور التشكل، وتتجاذبها توجهات متناقضة ما بين إيجابية وسلبية؟". وتضيف عدلي موضحة أهمية العلاقة الصحيحة بين الطرفين في بناء المجتمع الذي نتحدث عنه بالقول: "إنَّ كل نمط من أنماط هذه العلاقة من المتوقع أن يفرز أدواراً مختلفة للمجتمع المدني في صنع السياسة، ففي حين تتواجد علاقة شراكة فعالة وناجحة بين الدولة والمجتمع المدني في صياغة السياسات العامة وتنفيذها في الحالة الأولى (حالة الاعتماد المتبادل)، فإنه في الحالة الثانية غالباً ما ينحصر دور المجتمع المدني في القيام بمشروعات صغيرة هنا وهناك لمساعدة الفقراء والمهمشين، أو ما يطلق عليه ملء الفراغ الذي تركته الدولة بعد انسحابها دون أن يمارس دوراً حقيقياً في صنع السياسة من حيث صياغتها وتنفيذها وأيضاً تقويمها. وفي الغالب -وهذا وضع كثير من دول العالم الثالث- يكون وراء إفساح بعض المجال للمجتمع المدني الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها هذه البلدان، إضافة إلى الضغوط التي تتعرض لها من المؤسسات الدولية وغيرها من أجل الاعتراف بوجود هذا المجتمع المدني والإقرار باستقلاله".

وعليه، وكي تتكامل العلاقة الناجحة المطلوبة بين الطرفين: التيار المدني والدولة في البحرين، وأخذا بعين الاعتبار كل الظروف التي ولدها الحراك السياسي خلال السنوات الخمس الماضية، والتداعيات التي تمخض عنها، ينبغي أن يتوجه الطرفان، كل من منطلق مسؤولياتها والصلاحيات التي يضعها بين يديه ميثاق العمل الوطني والدستور، نحو منظمات المجتمع المدني البحرينية من أجل انتشال ذلك الذي تعثر من مشكلاته التي يعاني منها، وذلك القائم لتعزيز دوره في عمليات بناء المجتمع الذي يحقق التقدم السياسي، والنمو الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي، دون الزج بها في عمل سياسي مفتعل من جانب، ودون أن يفقد أي منهما: الدولة والتيار المدني، دوره السياسي في عملية التحول التي نتحدث عنها.

وهنا ينبغي الوصول إلى المعادلة السليمة التي تضمن لمنظمات المجتمع المدني ممارسة دورها الصحيح الذي تطمح له؛ فمن جانب الدولة ينبغي لها -كما ينصحها الكاتب محمد نور فرحات- أن تتحاشى الهيمنة "على منظمات المجتمع المدني من خلال التنظيم التشريعي والتدخل الإداري المفرط في توغله (للتأسيس لحركة) تنحو إلى الفصل بين المجتمع المدني والدولة بما يكفل استقلالية الأول بعيدا عن الثانية".

ومقابل ذلك، لا بد للتيار المدني أن يتحاشى هو الآخر الإمعان في تسييس منظمات المجتمع المدني، والزج بها عميقا في أتون العمل السياسي إلى درجة عميقة تفقدها ألوانها الحقيقية، وتتحول إلى ما يشبه التابع الذي يسير في دبر الحراك السياسي، بدلا من أن يكون رديفا له. ربما تكون منظمات المجتمع المدني هي نقطة اللقاء والانطلاق بين الدولة والتيار المدني، نحو بناء مجتمع متكامل قادر على معالجة ما خلفه الحراك السياسي في الآونة الأخيرة من جراح مطالبون بوضع البلسم الشافي عليها، بدلا من الاكتفاء بلعقها، انتظارا لمعجزة من الطبيعي أن يطول انتظارها.

وخير ما نختم به حديثنا حول دول الدولة ما جاء في دراسة سامر عبده عقروق، الموسومة "دور مؤسسات المجتمع المدني (الأهلي) في تعزيز مفاهيم الحكم الرشيد"، التي يُعزز فيها دور مؤسسات المجتمع المدني بالقول: "تؤدي مؤسسات العمل المدني في دول العالم جميعها، -خاصة في المجتمعات الديمقراطية- دورا بارزا في بناء أسس الحياة الديمقراطية والتشكيل السياسي في هذه المجتمعات، وتساهم في تعزيز السلوك المدني. وتتلخص طبيعة عمل المجتمع المدني بأنها الرديف الحقيقي للسلطة في أيّة دولة، ذلك أن أحد أهم أعمال هذه المؤسسات هو الرقابة والتقييم، المحاسبة والمساءلة، والمتابعة والتطوير، والأهم المساهمة الفاعلة في تطوير المجتمع وتنميته من خلال نشر مفاهيم الحياة المدنية".

تعليق عبر الفيس بوك