النظام الدولي والإقليمي لحقوق الإنسان

ناصر محمد

دائمًا ما يكون القانون الدولي -العام منه خصوصا- عرضة للنقد والتهكم من قبل رجال القانون؛ وذلك لافتقاره لعنصر جوهري يتمتع به نقيضه في القانون الداخلي ألا وهو "الإلزام"؛ فالقانون الدولي يتعامل مع دول ذات سيادة تامة تخضع بمحض إرادتها للالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ولا يترتب عليها أي ملاحقة قضائية أو مادية في حال نقضت أحد المواثيق أو العهود، بل يكون في أقصى الحالات قطع العلاقات الدبلوماسية والمعاملة بالمثل مع رعايا الدولة المستهدفة. بينما في القانون الداخلي، فالأفراد هم من يتعامل معهم ويخضعون لملاحقة قضائية إذا ما لم يتقيدوا بالقانون.

ولكن، وبسبب ازدياد تقارب العالم مع بعضه وتبادل المصالح في كافة المجالات، صارت سيادة الدولة في محل نظر أمام المتضررين منها سواء كان الضحايا هم الأفراد في حقوقهم في زمن السلم "القانون الدولي لحقوق الإنسان" أو الضحايا في زمن الحرب من المدنيين أو العسكريين في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية "القانون الدولي الإنساني" أو المتعرضين لجرائم الحرب وضد الإنسانية والإبادة "القانون الجنائي الدولي"؛ فالإنسان لم تسعه بقعة جغرافية بسيطة لتحتكر حقوقه، بل توسع ليبحث عن نظام عالمي يضمن التجاءه إليه من ملاحقات وطنية أو قومية أو عقائدية، فنشأت أنظمة دولية وإقليمية تضمن سلامة هذا الإنسان من عسف الدول وتسلطها وذلك في إطار حقوق الإنسان، وكذلك تعفيه من قيود الجنسية عند الهجرة إلى عالم آخر أكثر أمنا هروبا من دكتاتورية دولة أو حرب أهلية، وكذلك المساواة مع مواطني الدولة اللاجئ إليها في الحقوق دون تمييز، ولأن العالم أصبح قرية صغيرة صار من الطبيعي أن يطور القانون الدولي العام ليتلاءم مع تطورات الإنسان الكونية.

سيكون الحديث هنا فقط عن الأنظمة (الدولية والاقليمية) المتعلقة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ وذلك تمييزا عن "القانون الجنائي الدولي" و"القانون الدولي الإنساني". وبالنسبة للنظام الدولي، وللأسف، ولكن ليس إلى درجة التشاؤم، فإن هذا النظام لا يزال أضعف بكثير من الأنظمة الاقليمية والذي يفترض أن يكون قدوة لها، وذلك بسبب فكرة "السيادة" التي ماتزال مهيمنة على النظام الدولي لحقوق الإنسان المتمثل بهيئة الأمم المتحدة. فإلى الساعة هذه يتمثل عنصر الإلزام للدول أمام مجلس حقوق الإنسان والآليات التعاقدية وغير التعاقدية بالضغط الإعلامي فقط في حال خرق الدولة لأي بند من اتفاقية لحقوق الإنسان صادقت أو انضمت إليها، ولا توجد محكمة يلجأ إليها أي فرد يعاني من عسف دولته ضده. فمحكمة العدل الدولية مثلا وهي إحدى الأجهزة الرئيسة للأمم المتحدة ليس لها الاختصاص للنظر في قضايا حقوق الإنسان، بل هي مختصة وفقا لنظامها الأساسي بالقضايا المعروضة من قبل الدول وليس الأفراد وبرضا الدول المحض أيضا. وعلى الرغم من غياب عنصر الإلزام في نظام الأمم المتحدة لقضايا انتهاك الدول لحقوق الإنسان إلا أن تعرض الدولة لهز سمعتها عالميا ليس بالأمر الهين. ذلك أن وضعها تحت المجهر يكثف التقارير ضدها وتمارس عليها بعض الضغوطات الإعلامية التي تضر بقطاعاتها الحيوية وخاصة السياحية منها، كما أن الأمم المتحدة قد تدعو أعضاءها من الدول بقطع العلاقات معها مما سيضر بمصالحها كثيرا. ناهيك عن تحويل قضية من القضايا الإنسانية إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار وفقا للفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة الذي يستخدم عنصر القوة ضد الدولة المنتهكة، وخاصة في انتهاكات الدولة للقانون الدولي الإنساني.

ولتلافي غياب "الإلزام" في النظام الدولي، قامت الأنظمة الاقليمية بسد هذا الفراغ وتأكيد إلزام الدول بغض النظر عن سيادتها بالاتفاقيات التي تنضم إليها في أي نظام إقليمي تنتمي إليه، وأول هذه الأنظمة الناجحة هو "مجلس أوروبا"، وينبغي التنويه أن مجلس أوروبا هو منفصل عن الاتحاد الأوروبي والمجلس الأوروبي، ويبلغ عدد أعضاءه 47 عضوا. ولقد تأسس هذا المجلس كتحقيق لرغبة رئيس الوزراء البريطاني " ونستون تشرشل" بإنشاء مجلس لأوروبا معني بحقوق الإنسان وذلك في خطابة بجامعة زيوريخ عام 1943م. وإثر معاهدة لندن عام 1949م تم تأسيس مجلس أوروبا وجعل مقره الدائم في مدينة "ستراسبورغ" بفرنسا، وتم اعتماد اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية والحريات الأساسية عام 1950م ودخلت حيز النفاذ عام 1953 مع 16 بروتوكول مضافا إليها، دخل 14 منها حيز النفاذ. وأهم مكتسبات هذا النظام الإقليمي هو إيجاد محكمة أوروبية لحقوق الإنسان تتابع اتفاقيات حقوق الإنسان التي انضمت إليها الدول التابعة لمجلس أوروبا.

هذا بشأن أوروبا، أما في الأمريكتين فقد نشأ نظام إقليمي أمريكي لحقوق الإنسان نتيجة لميثاق منظمة الدول الأمريكية لعام 1948م، والذي أنشأ بموجبه اللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان في واشنطن عام 1959م وكذلك المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان في سان خوسيه بكوستاريكا. وتعتمد هذه المنظمة الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان وواجباته الذي تم إشهاره قبل الإعلان العالمي لحقوق الانسان بستة أشهر، وكذلك الميثاق الذي أسس المنظمة وخمسة اتفاقيات وبروتوكولين إضافيين. أما النظام الافريقي فقد نشأ وفقا للميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الذي اعتمد عام 1981 ودخل حيز النفاذ عام 1986م، وبه اتفاقية وبروتوكولان، ومن ضمن أجهزته اللجنة الافريقية لحقوق الانسان والشعوب ومقرها مدينة "بانغول" في غامبيا والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب ومقرها مدينة "أوروشا" في تنزانيا.

وفي دولنا العربية، لم يتطرق ميثاق جامعة الدول العربية لأي مادة متعلقة بحقوق الإنسان، ويعتبر ميثاق حقوق الطفل العربي أول وثيقة عربية لحقوق الإنسان عام 1983 من رحمها، وتم طرح الاتفاقية العربية الخاصة باللاجئين عام 1994م ولكنها لم تدخل حيز النفاذ. وفي عام 2004 تم اعتماد الميثاق العربي لحقوق الإنسان بتونس ودخل حيز النفاذ عام 2004 والذي لم تصادق عليه السلطنة إلى الآن. وانبثقت من هذا الميثاق لجنة حقوق الإنسان العربية وتتكون من 7 أعضاء ومقرها القاهرة. وتم اعتماد المحكمة العربية لحقوق الإنسان ومقرها المنامة ولكن للأسف لم تدخل حيز النفاذ إلى وقتنا هذا، مما يشل بذلك فعالية الميثاق. وأخيرا "منظمة التعاون الاسلامي" كآلية اقليمية لحقوق الانسان إذ صدر بشأنها ثلاثة إعلانات لحقوق الإنسان وعهد واحد لم يدخل حيز النفاذ إلى الآن، كما لا توجد إلى الآن محكمة مختصة لحقوق الإنسان تابعة للمنظمة نظير للمحاكم الأوروبية والأمريكية والافريقية.

ويُلاحظ أنَّ الأنظمة الإقليمية هي أنظمة أكثر فاعلية من النظام الدولي الذي يغيب عنه عنصر الإلزام المتمثل في محكمة معترف بها تفصل في قضايا حقوق الإنسان المنبثقة من الاتفاقيات المتعلقة به، ويستثنى من ذلك النظام الإقليمي العربي والإسلامي. كما أنه لا يوجد إلى الآن "نظام آسيوي" لحقوق الإنسان والذي بوجوده قد يسد الفراغ في هذه القارة بجعل الالتزام بحقوق الإنسان حقيقة واقعة.

تعليق عبر الفيس بوك