الهبة والهبوت..!!

عائشة البلوشية

قبل مدة كنت أشاهد مقطع الفيديو المتداول، والذي يظهر طفلا في إحدى بلاد الشرق الأقصى، دهسته إحدى المركبات، والجموع تمر به طريحًا على الأرض وكأنّه لا شيء، ويرونه تارة يتأرجح ألمًا، وتارة مستسلمًا ومفترشًا الطريق لا حيلة له، حيث ماتت الإنسانية في القلوب، وطغت الماديّة بشكل بشع، ولم تدع متسعًا في الأرواح لقيد أنملة من رأفة، ودهشتي وهلعي يتصارعان من أنّ الفضائل قد تضمحل أمام الرذائل، ويصبح الإنسان لا قيمة له في عالمنا القادم، ولكنّني دحرت ذلك الشيطان القابع خلف صوت السلبية، والذي كان يوسوس لي بأنّ هذا ما سيكون، فرحلت إلى ضحى أحد أيام النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، كانت تركض أمامنا حاملة ملابسها، تسابقنا إلى مكان الاغتسال وقفزت كالغزال فوق فوهة الطوي (البئر)، وفجأة اختفت تمامًا عن أنظارنا، فتسمّرنا لهول المفاجأة في أماكننا للحظة وكأنّها دهر من الصمت، فالملابس التي كانت تحملها نراها ملقاة على حافة الطوي، أمّا هي فكأنما تبخرت في الهواء، ثم تجرأنا لنقترب شيئًا فشيئًا من حافة الطوي، لنراها قابعة في القاع تنظر إلى الأعلى، فركضت أكبر بنات العم إلى زوجة أبيها، صارخة بأنّ ابنة عمتها سقطت في الطوي، ولكثرة الأساطير التي كانت تروى لنا، كنا ننظر بوجل إليها ونتساءل هل ستبتلعها المياه لتختفي من بيننا، أم أنّ جنية الطوي ستحتفظ بها...

جاءت الخالة وألقت نظرة سريعة إلى القاع، ثمّ استجمعت نفسًا عميقا ونقت بالصايح (أي صاحت بأقصى ما آتاها الله من صوت) قائلة: "ثيبونا" (بمعنى أغيثونا) مع إطالة حرف العلة الأخير حتى ينقطع النفس، مكررة ذلك النداء مرات عديدة، وما هي إلا هنيهات، ورأينا الجموع تصل، وكان أولهم عم الوالد الشيخ عبدالله بن محمد رحمه الله وغفر له، يحمل التفق (البندقية من نوع صمعة) وبدأ يطلق الرصاص في الهواء، والجميل في الأمر هو جهاز الـ "navigation" الداخلي الدقيق الإحداثيات (جهاز الملاحة) الداخلي حدد للجميع موقع الحدث، فأتى من أتى بما يمكنه أن يكون عونًا ومغيثا في تلك الحالة، التي لا يعلم كنهها حتى لحظة وصوله، لذلك ترى أحدهم جاء بمجرفة، والآخر جاء بقفير (سلّة كبيرة تصنع من خوص النخيل)، والكثير منهم جاءوا بدلاء ملأى بالماء أو فارغة، تحسبا لحريق محتمل، والبعض جاء بحبال سميكة، وغيرهم بمجز ومخطة (منشار)، المهم بأنّه وبعد جدال، وذلك يقسم والآخر يبرر أنّه الأفضل، تقرر بأن ينزل المرحوم حمود بن مطر إلى قعر الطوي وإخراج تلك المسكينة من هناك، فنزل رحمه الله وبمساعدة الجميع خرجت، وكانت الإصابة الوحيدة هي فقدانها ﻷحد أسنانها القواطع والحمد لله...

إغاثة الملهوف والمستجير هي عادة متأصلة في النفس البشريّة الكريمة المحبة للخير، وأجمل ما في مجتمعنا من النعم هو تلبية نداء الغوث، وهي نعمة وفضيلة من الفضائل التي أسأله تعالى أن يديمها علينا، ولعلّ أحداث الأنواء المناخية التي أصبحت تمر بنا هي من أجمل الملاحم على وحدة الصف، وحب الخير بين ربوع أرض الغبيراء في العصر الحديث...

والحوادث الشخصيّة أو الفردية كانت تعالج كما ذكرت بعاليه، حيث يتم التعامل مع الحدث من قبل المجتمع المحيط بطالب الغوث، أمّا إذا ارتفع مستوى الطلب وأصبح بين القبائل، فهنا يبرز نوع آخر يعرف بـ"الهبة"، أي يهب أفراد البلدة من الذكور، ويذهبون إلى البلدة المستغيثة، في صفوف أفقية حاملين معهم ما يعينهم، ويهزجون بالشعر الذي يبعث الحماس في النفس، وأكثر الهبات كانت تتم إذا انهدمت إحدى ثقاب الأفلاج على سبيل المثال، "ينقع الصايح" من البلدة التي تجاور أم الفلج، ويرد عليها بإطلاق الأعيرة النارية في مكان التجمّع، فيهب رجال البلدة المجاورة جميعا لمد يد العون، حتى تعود المياه لمجاريها، وهذا كان موجودا إلى الماضي القريب، كما أنّ "الهبة" لم تكن تقتصر على الغوث فقط، بل كانت لتلبية دعوة على وليمة أو عقد قران أو زيارة جماعيّة أو إصلاح ذات البين أو حسم نزاع..

وبعد تناقصها شيئا فشيئا من محافظة الظاهرة بسبب هبّات العصر من نعم النقل والمواصلات، أصبحت الهبة لا تمارس إلا بعد النزول من صلاة العيدين وحتى يصلون إلى داخل البلاد لمنزل الشيخ الذي يؤدم لهم صباح أول أيام العيدين، والتي بت أفتقدها كثيرًا في الأعوام الأخيرة، ولست أعلم سبب تنازل الشباب عن هذه العادة التي تنم عن النشامة والشجاعة والفرح بتأدية واجب أو تلبية دعوة..

أمّا الجميل والذي يثلج الصدر فهو احتفاظ محافظة ظفار بالفن التوأم لهذا الفلكلور، ألا وهو "الهبوت"، الذي تشتهر به محافظة ظفار، وهو فن في المطارحة الشعريّة بين الشعراء والتي تختلف باختلاف المناسبة، التي تمثل حياة الناس في تلك القطعة الغاليّة من بلادي، هذا الفن الرجولة والشهامة والفروسيّة، ويعتبر منبرًا يتم التطرّق خلاله إلى أغراض شتى، كالمدح والاحتفاء والفخر والحكمة والمناصحة والصلح والنجدة والغوث، والجميل في جميع الفنون هو تقديم الأعلى سنًا ومقامًا ليصبحوا في الصف/ الصفوف اﻷولى، ويأتي الشباب تباعًا في صفوف منتظمة عرضيًا، فيبدأون بالغناء دون آلات موسيقيّة، يحمل كل منهم سلاحه في يده، سيفًا كان أو بندقيّة، ويجول أمامهم بعض الرجال في قفزات عاليّة في الهواء حاملين الخناجر أو السيوف، لتأتي جموع الهبوت الأهليّة من بعدهم.

إنّ المسارعة لمد يد العون والمساعدة وإغاثة الملهوف هي من أروع وأجمل صور التكافل الاجتماعي، والتي لايزال المجتمع العربي بشكل عام، والمجتمع العماني بشكل خاص يحتفظ بها، وهي من مكارم الأخلاق التي يجب أن نعض عليها بالنواجذ، لكن دون أن نلغي عقولنا وننجر وراء رسائل الخداع التي تصلنا بأشكال وصيغ مختلفة، ليظهر لنا أننا وقعنا ضحية خديعة أو عملية نصب واحتيال، فكما لوسائل التواصل الاجتماعي ايجابيّات كثيرة، لها أيضًا سلبيات يجب أن نحذر منها، وألا نتورّع في طلب الاستيضاح والمعلومات الكافية قبل الانجرار إلى ما لا تحمد عقباه، والذي بدوره قد يوصلنا إلى دائرة المساءلة القانونية في بعض الأحيان..

توقيع :
"‏ولا حزن يدوم ولا سرور.. ولا بؤس عليك ولا رخاء..
‏إذا ما كنت ذا قلب قنوع.. فأنت ومالك الدنيا سواء.."
‏* الإمام الشافعي،،

تعليق عبر الفيس بوك