الخليلي: الفقه الإباضي لا يكفر الآخر المختلف عقائديا.. ولغة أهل عمان تعاني من الألفاظ "الدخيلة"

سماحة المفتي يشارك في ندوة علمية حول سيرة العلامة المحقق سعيد الخليلي

الرُّؤية - مُحمَّد قنات

شدَّد سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مُفتي عام السلطنة، على أنَّ الفقه الإباضي لا يُكفِّر الآخر، وإن اختلف معه في قضايا عقائدية. موضحا أنَّ التسامح قيمة إسلامية كبيرة ينبغي على كل مسلم التمسك بها.. جاء ذلك خلال مشاركة سماحته في الندوة العلمية التي أقامها مجلس الإمام الجلندى الثقافي، بالتعاون مع درس بوشر المركزي، في جامع الشيخ هلال بن علي بن عبدالله بن سعيد بن خلفان الخليلي، أمس الأول. وقدَّم سماحته ملاحظات مهمة في تعقيبه على الأوراق التي قُدِّمت خلال الندوة؛ حيث أضْفَى الخليلي على الندوة بُعدًا آخر بتعقيباته السديدة وآرائه الحصيفة، مما كان لها الأثر البارز في فهم واستيعاب حقبة المحقِّق سعيد بن خلفان الخليلي.

ودَعَا الخليلي -خلال الندوة- إلى الاهتمام باللغة العربية. وأشار إلى أنَّ هناك الكثيرَ من الألفاظ والمصطلحات المتداولة الآن خرجت عن إطارها اللغوي، وهي دخيلة على لغة أهل عمان، خاصة وأنهم كانوا يتمسكون باللغة العربية في هذا الجانب، داعيا إلى الرجوع لكتاب الله للتأكد من سلامة اللغة. وتمحورت أوراق عمل الندوة حول حياة العلامة الشيخ المحقق سعيد بن خلفان الخليلي، إلى جانب بعض التواريخ المهمة في حياته، من حيث مولده ووفاته، إلى جانب تحقيقات أخرى تتعلق بالأحداث التى دارت في عصره وأخرى تتعلق بالاجتهادات.

أوراق العمل

وقُدِّمتْ في الندوة ست أوراق عمل متنوعة، طافتْ بالحضور في بساتين فقهية وعلمية مختلفة. وحملت الورقة الأولى عنوان "ترجمة المحقق الخليلي"، وقدَّمها الباحث سليمان بابزيز، عرض فيها حياة المحقق الخليلي ونسبه ومولده وشيوخه وتلاميذه والعصر الذي عاش فيه ثم وفاته. وعقَّب سماحة أحمد بن حمد الخليلي على الورقة وأثنى على ما قدمه الباحث. وسلط سماحته الضوء على خطأ وقع فيه بعض المؤرخين، وهو تاريخ عقد الإمامة للخليل بن شاذان، والذي ذكره الباحث بابزيز نقلا عن تحفة الأعيان للإمام السالمي وهو سنة 407 هجريا؛ حيث أشار إلى أنَّ الأمر ليس كذلك؛ فالخليل بن شاذان بويع عام 447 من الهجرة، بعد وفاة الإمام راشد بن سعيد اليحمدي، وهو ما رجحه الشيخ سيف بن حمود البطاشي في "إتحاف الأعيان". وأضاف الشيخ الخليلي بأنَّ القول بمبايعة الإمام الخليل بن شاذان عام 407 من الهجرة جرأ البعض -ومنهم الدكتور صلاح الدين المنجد- على القول بأنَّ الإمام الحضرمي "أسطورة" ابتكرها السالمي والباروني، فقد ذكر أن الإمام أبو إسحاق الهمداني الحضرمي وفد على الخليل بن شاذان الذي نُصِّب في العام 407 هـ ومات عام 425 هـ، رغم أن حروب الصليحي كانت في العام الخمسين من القرن الخامس أي في العام 450هـ، فكلُّ ما استطاع أن يستغله الدكتور صلاح الدين المنجد هو ذلك الخطأ الذي وقع فيه بعض المؤرخين العمانيين، وهي أنهم قالوا إنَّ الإمام الخليل عقدت عليه الإمامة في العام 407هـ، والحقيقة غير ذلك؛ وتثبت ذلك سيرة الإمام العلامة عبدالله بن مداد -رحمه الله.

وأوْرَد سماحته ما فنَّد به كلام الدكتور صلاح الدين المنجد بأن كلًّا من الإمام السالمي والزعيم الباروني لم يكونا يعرفان كثيرا من العبارات الموجودة في ديوان الحضرمي لعدم احتكاكهما بالشعب الحضرمي، مثل كلمة "عاد"، وهذه كلمة غير متداولة في عمان رأسا، وإنما هي كلمة معهودة عند الحضارمة ولا يزالون يستعملونها إلى الآن، وربما يعرفها أهل ظفار لصلتهم بالحضارمة، وقد جاءت في كلام الإمام الحضرمي في مواضع من ديوانه كقوله "إنا تركنا عاد وعظ الكلم"، والذين أدركوا الحقائق أثبتوا وجود الإمام الحضرمي وأنه شخصية حقيقية وليست شخصية وهمية، كما ذهب الدكتور صلاح الدين المنجد.

الاجتهاد لا التقليد

فيما حملت الورقة الثانية عنوان "الاجتهادات الفقهية عند المحقق الخليلي"، وقدمها الباحث الشيخ سعيد الناعبي، وقد طاف بالحضور في رياض فقهية متنوعة، وتميز بحفظه للمسائل الفقهية واستحضاره لأحكامها وتفاصيلها الدقيقة. وذكر النابعي أنَّ ممَّا تفرد به المحقق كونه مجتهدا غير مقلد، القول بعدم نجاسة الخمر والبنج والأفيون؛ فعنده "كل نجس حرام وليس كل حرام نجسا"، وقال بجواز التيمم الواحد لعدة صلوات خلافا لجمهور الأصحاب، وقال بعدم جواز الصلاة خلف المجاهر بالمعاصي...وغير ذلك كثير.

وعقَّب سماحة مفتي عام السلطنة على ما ذكره الباحث الناعبي في بحثه وأثنى عليه، وأضاف على ما ذكره الناعبي من التكفير في الفروع، وقال سماحته إنه حتى في مسائل الرأي البسيطة يتم التكفير للمخالف، وذكر من ذلك تكفير من يقتبس من القرآن.

وقدِّمت أوراق الندوة نبذة عن الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي وجهاده الفكري؛ حيث إنه يعد من علماء عمان وشعرائها، ولم ينل هذه المكانة العالية إلا من خلال مواقفه الفكرية والدينية من جهة، وإنتاجه العلمي والشعري من جهة أخرى. وأوضحت أوراق العمل أن الشيخ هو السيد الجليل، العملاق العظيم، العالم الرباني، الفقيه المحقِّق العارف بالله "علامة المعقول والمنقول" سعيد بن خلفان بن أحمد بن صالح بن يحيى بن أحمد بن عامر بن ناصر الخليلي نسبة إلى آل الخليل بن عبدالله بن عمر، ويتفرع من بني خروص بن شاري بن اليحمد بن عبدالله، وينتهي نسبه إلى قحطان بن هود النبي عليه السلام، ويلتقي نسبه بثلاثة من الأئمة الأعلام؛ هم: الخليل بن عبدالله بن عمر بن محمَّد الذي بويع بنزوى بعد انتزاعها من النباهنة، ثم بالخليل بن شاذان المعقود له الإمامة سنة 407هـ، ثم بالإمام الصلت بن مالك بن بلعرب الخروصي الذي بويع بالإمامة سنة 237هـ، وعمَّر فيها ما لم يُعمَّر غيره من أئمَّة عُمان. وهذه القبيلة العريقة قد ضرب المجد أطنابه ببابها، فنالت عظيم الشرف والرفعة وكان بيدها زمام القيادة الدينية في عمان، فقد تعاقب عليها الأئمة الذين دوت أصواتهم في جنبات عمان آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، رافعين لواء الحق، مقيمين صروح العدل.

مولده ونشأته

وولد الشيخ سعيد الخليلي في بلدة "بوشر بني عمران" الوادعة من ضواحي مسقط العامرة، بين النخيل الباسقة، والظلال الوارفة، والجبال الشاهقة والأودية المتشعبة، وفتح عينيه في بدايات القرن الثالث عشر الهجري، حوالي سنة 1226 من الهجرة عند المؤرخ الخصيبي، وقيل 1236هـ وتوفي وعمره 51 سنة، عند أبي بشير السالمي وهو المشهور. لكن الشيخ أحمد الخليلي يرجّح ميلاده سنة 1231هـ نقلا عن مخطوطة كتاب الإرشاد للشيخ سيف الخروصي، وبناء على وفاته وعمره 57 عاما. لكن الثابت بلا خلاف أنه توفي سنة 1287هـ؛ فعلى قول الشيخ أحمد في ترجيح مولده سنة 1231هـ فستكون وفاته عن عمر يناهز 56 سنة، وهو الراجح، كما جاء في مخطوطة كتاب الإرشاد نفسها عبارة: "مات شهيدا بعد إمامه بأيام -رضوان الله عليه- وعمره 56 سنة".

ولم تكن "بوشر" موطن أجداده الأُوَل، وإنَّما رحل أهله من بلدهم "بُهلا" بالمنطقة الداخلية ثم "إزكي" ما إن وُلد الطفل وبدَأ يرضع لبان الإيمان، ويتلقَّى كلماتِه الأولى حتى اختارَ الله والده "خلفان" لجواره، فنشأ في رعاية جدِّه "أحمد بن صالح" صاحب الجود والكرم والسعة في الرزق، ينشئه على معالي الأمور، ومدارج الكمال، ويسلك به طريق العلم والعمل والرفعة، ويتلقى على يديه مبادئ القراءة والكتابة، وتلاوةَ القرآن وحفظَه، فبدأت تتفجر في قلبه ينابيع المعرفة والعلوم، فلم يلبث طويلا حتى أرسله جدُّه إِلَى بلدة سيبا من قرى بوشر ليستزيد علما من الشيخ سعيد بن عامر بن خلف الطيواني، ويغترفَ من معينه مبادئ العربية وعلوم الشريعة وكان معلمُه غزير العلم سريع البديهة، يهتمُّ به كثيرا لعلامات النبوغ التي يلمحها فيه كلَّ يوم، ويُذكر أنه لمَّا بلغ سنَّ السادسة عشر من عمره افتقده بضعة أيَّام، فذهب يسأل أمه عن سبب انقطاعه؛ فلمَّا عاد إلى أمه أخذت تلومه وتوبخه لانقطاعه وتأخره عن شيخه، فرجع إليه معتذرا وحاملا باكورة إنتاجه العلمي، في منظومة أسماها: "مقاليد التصريف"، وهي ألفية في علم الصرف كتبها بلغة بسيطة سهلة الاستيعاب، ثمَّ شرحها بعد ذلك.

وقال الدكتور خالد سعيد التفوشيت: إنَّ الأوراق تركزت حول ترجمة الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي -رحمه الله- وقدمت معلومات عن حياته واجتهاداته الفقهية والمصطلحات والدلالات الموجودة في فتاواه وتتعلق بالبيئة العمانية، خاصة وأن الشيخ رحمة الله عليه يمتاز باجتهاداته وتحقيقاته؛ حيث يجمع بين شِقَّي العلم والأدب، وبمثل ما اهتم بالعلوم الشرعية فهو شاعر وأديب له مؤلفات وكتب تتعلق باللغة والأدب وأخرى تتعلق بعلم العَروض، إلى جانب عدد من القائد الشعرية. وأشارت الأوراق إلى أنَّ الشيخ جمع أيضاً بين الجانب العملي والسلوك، ولكن السلوك عنده لم يأخذ منحى المتصوفة، بل منحى تزكية النفس وتربيتها، وذلك يظهر في قصائده وأشعاره؛ حيث لُقِّب بالمحقق نتيجة تحقيقاته فلا يكتفي بإعادة الآراء والأقوال، وإنما كان يقوم بالتحقق ولا يعتمد على الأدلة جزافاً ويخضع المسائل إلى تحقيق علمي، ويعتمد في ذلك على الكتاب والسنة والإجماع وجميع مصادر التشريع.

تعليق عبر الفيس بوك