رصيد الخدمات

مريم العدوية

الحياة مزرعة، وأعمال المرء هي البذور التي ستؤتيه أُكلها ولو بعد حين؛ ولذا عليه ألا يرتاب طول فترة الانتظار، وأن يزرع حيثما كان، فكما يقول الشاعر:

ازرع جميلاً لو في غير موضعه

ما غاب جميلٌ قط أينما زُرعا

وعلى المرء ألا يستكثر فعل الخير والجميل مع أي كان؛ فالأيام دول ويوم لك وآخر عليك وتلك سُنة الحياة، وغير ما يرجوه من فعل الخير من الله فهو كذلك يرجو أن يجد من يستند عليه يوماً في الأيام السوداء.

في رواية الزَّهير للروائي البرازيلي باولو كويلو يطلق كويلو على هذا الأمر (رصيد الخدمات)، وهو من جانبه يحاول جاهداً أن يضع له رصيداً مع كل من يقابله وكذلك يزيد من حساب أرصدته على الدوام، ويدرك من ناحية أخرى أن الآخرين بالمقابل سيتذكرون هذا الرصيد يوماً ولن يتقاعسوا في رد الخدمة والجميل.

من هذا المنطلق أتساءل كم من الأرصدة التي نحتاجها مع أقرب الناس إلينا في تعاملاتنا اليومية، وما السبيل لزيادة حصتنا في تلك الأرصدة؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة يلزمنا أولاً معرفة ماهية رصيد الخدمات، ومن ثم نعرج على كيفية خلقه وبعدها كيف يتم إضافة المزيد إليه.

المقصود برصيد الخدمات هو كل ما تقدمه للآخر من ردود فعل ومبادرات حسنة، فقد تكون نصيحة أو زيارة، قرضا ماليا أو تقديم تهنئة أو واجب العزاء أو حتى السؤال والاتصال الدائم، وهو من جانب آخر التعاضد والذكريات الطيبة التي كنتَ أنت فيها الفاعل اتجاه شخص الآخر. ولذا أنت قادر على زيادة هذا الرصيد كلما أتيحت لك الفرصة وفي كل النواحي، بل وكذلك مع الجميع.

ولأن "الإنسان مدنيُّ بطبعهِ" كما يذهب في ذلك ابن خلدون فلا غنى له عن الآخرين ولذا فمن الجيد أن يكون رصيده من الخدمات مرتفعا مع الجميع.

فمن المجدي بالنسبة لك أن يكون رصيدك مع عائلتك مرتفعا؛ لتجد في المقابل منهم ما ترجوه عند الحاجة، فالزوج على سبيل المثال الذي يعذر زوجته في تقصيرها في بعض النواحي بكل تأكيد ستجد له هي من جانب آخر العذر متى ما احتاج له. وكذلك مديرك في العمل الذي يجدك فعّالا ومثابراً في أداء واجبك فإن ذلك يمنحك فرص التغاضي منه عند الحاجة. وحتى المعلم الذي يكون رصيد أحد طلابه لديه مرتفعا نتيجة اجتهاده واحترامه مثلاً نجده لا إراديا يلجأُ إلى ذلك الرصيد عندما يخطئ الطالب، وبالتالي فإن تعاملهُ مع طالبه المجتهد والمؤدب سيختلف بديهياً عن تعامله مع طالب آخر كسول وغير مبال.

وهذا هو الأمر الذي يقع فيه كثير من الناس ومن ثم تصيبهم الدهشة على ردة فعل الآخر، إنهم يدفعون بأرصدتهم نحو الإفلاس. يحدثُ هذا الأمر غالباً دون أن يشعر المرء كم هو مهمِلٌ للآخر، فمثلاً عندما يمر صديق مقرب لك بحالة من الفرح أو الحزن ومن ثم تغيب أنت عن ساحة المهنئين أو مقدمي المواساة والتعازي؛ فإن رصيدك هنا يهوي إلى القاع ومن ثم ستتساءل وقت حاجتك لذلك الصديق عن اختفائهِ المفاجئ ومن هنا تبدأ دائرة العتاب ثم البُعد والفرقة. والزوجة التي لا تُبالي بزوجها في بعض ضوائقه وضغوطاته فإنّ رصيدها لديه أيضاً يتجه نحو الإفلاس، وفي النهاية سنجدها تتهم زوجها بعدم المبالاة أو ببخسه حقوقها!

إن الحياة مبنية على الكثير من التعاملات مع البشر، والتي هي تعاملات شديدة الحساسية وكثيراً ما يؤثر فيها موقف لتتغير كل أُطر العلاقة؛ ولذا على المرء أن يكون دائماً على حذر في تعامله مع الآخر خاصة أولئك الذين يؤمن بأهمية وجودهم في حياته.

في رواية الزَهير يمثل باولو كويلو شخصية الكاتب الذي يرتحل باحثا عن الزهير/ زوجته التي قررت أن تبتعد لتهدي زوجها أُفقاً جديداً في الحياة، وكما يتبين للقارئ فإن رحلة باولو كويلو غالباً ما ارتكزت على رصيد الخدمات؛ فهو دائماً ما سيتذكر كم من الخدمات التي أسداها للآخر وبالتالي فهو قادر الآن على أن يطلب من الآخر خدمة ما.

ولولا رصيد الخدمات ذلك الذي امتلكهُ بطل الرواية لما استطاع أن يقتفي آثار زوجته، ويقطع الأميال والقفار البعيدة.

إننا بشر قاصرو النظر والقدرة وبالتعاضد فقط نكون أقوى؛ وأرصدتنا لدى الآخر هي من يمنحنا فُرصاً أكثر.

تعليق عبر الفيس بوك