الحوار الوطني العماني.. "نعم" للمراجعة "لا" للتراجع

 علي المعشني

وردني -كما ورد غيري- على وسائل التواصل الاجتماعي نصُّ ما سُمِّي بميثاق الحوار الوطني العماني، مذيَّلًا بتوقيع مجموعة من الشباب العُماني، ويحتوي على عشر نقاط اعْتَبرها الموقِّعون مبادئ للحوار الوطني في السلطنة. وبدون الغوص في تفاصيل النقاط أو مُجمل البيان أو الموقِّعين عليه؛ فلاشك عندي للحظة في طهارة وصدق ووطنية الموقعين على "الميثاق"، ولا في أهمية النقاط العشر الواردة؛ كونها مُسلَّمات وأطوارًا في عُمر الدولة ونشأتها، ومن أدوات تحصينها وتوثيق نسيجها بدعائمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ولكنني هنا أُمارس حقَّ المواطنة في قراءة تلك النقاط قراءة عميقة وواعية، ومحاولة تسكينها بين الممكنات والطموح، مع عدم تجاوز عوامل الزمان والمكان والظرف التاريخي الدقيق الذي تمرُّ به سلطنتنا الحبيبة، والمؤثرات الإقليمية والدولية من حولها والتي تعجُّ بالصخب والضوضاء الاستثنائيين.

ولابد لي في البداية من تأصيل علمي ولغوي دقيق شامل وجامع للميثاق والحوار حتى ننطلق فيما بعد إلى تفكيك البيان أعلاه وإعادة تركيبه وفق العقل والمنطق والممكن.

المِيثَاقُ: "القانون" ما يتعاهد أو يتحالف عليه رسميًّا شخصان أو أكثر، رابطة تتألّف من أجل عمل مشترك (قاموس الوسيط للمعاني).

وهنا.. يتضح أنَّ الميثاق يأتي بعد التعاهد أوالتحالف أو الحوار وليس قبله.

تعريف الحوار: هو مراجعة الكلام بين شخصين أو أكثر ويطغاه الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصب، وفي القرآن الكريم جاء الحوار بمعنى المجادلة بالتي هي أحسن، والحوار وسيلة من وسائل الاتصال بين الناس؛ بحيث يتعاون المتحاورون على معرفة الحقيقة والتوصل إليها؛ ليكشف كل طرف منهم ما خفي على صاحبه منها.. والحوار كذلك عبارة عن مطلب إنساني، بحيث يتم استخدام أساليب الحوار البناء لإشباع حاجة الإنسان للاندماج والتواصل مع محيطه، وهو أسلوب يهتم بالتعرف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى في الحوار. والحوار يتم بالوصول إلى نتائج عن طريق البحث والتنقيب من أجل الاستقصاء والتنويع في الآراء، وهو عبارة عن نقاش يديره أطراف الحوار، ويكون بطريقة متكافئة، في مسألة معينة، ويمتاز بالبعد عن التعصب لإظهار الحق بالحجة والبرهان، كما أنه يعني تبادل أفكار وآراء ونقاشات لحديث يشغل الطرفين، والهدف هو الوصول إلى ما في أذهانهم.

معنى الحوار: تبادل للآراء بين عدد من الأشخاص (شخصين أو أكثر) حول قضية مشتركة في محاولة لإيجاد فكر مشترك. وليأخذ الحديث مسمى الحوار لا بد أن ينطبق عليه جمع من الأمور كأن يأخذ كل من الأفراد المتحاورون الفرصة للتعبير عن آرائهم حول القضية المطروحة دون الإساءة إلى أي من الاشخاص المتحدثين أو تعصب إلى رأي دون أخر، وليكون الحوار فعّالاً فلا بد من الوصول بالحديث إلى المكانة المطلوبة وإيجاد حلول للقضية المعنية يتفق عليه جميع المتحاورين.

آداب الحوار:

1- أن يكون الحوار فعالاً: فلا أساس لحوار بُني على أساس خاطئ، فلكي يكون الحوار فعالاً لا بد أن يكون الهدف لدى المتحاورين موضوعيًّا متعلق بموضوع الحديث لا غير، وأن يهدف كل منهم إلى الاطلاع على الرأي المطروح لا إلى الشخص المتحدث.

2- توافر المعرفة لدى المحاور:  فلا بد للمتحدث أن يكون مُلمًّا بما يدور النقاش حوله؛ فيكون ذا ثقافة تسمح له بتكوين رأي ليحاور الآخرين بناءً على دراية، وإلا فيكون حديثه ضربا من خيال، وجدلا لا فائدة منه سوى إضاعة الوقت.

3- مصداقية الحوار: وهي أن يتمتع كلا الطرفين بالصدق في الحديث، وينطبق ذلك على صدق الأدلة الداعمة لكل من الرأيين، والصدق المتبادل في الحديث يجعل الحوار فعالاً ومفيداً، ويسمح لكل منهما الاخذ برأي الاخر بناء على الأدلة المطروحة من الجانبين.

4- الصبر وسعة الصدر: يحتاج المتحاور لسماع الآراء المختلفة والإصغاء لمختلف المتحدثين؛ سواء كانوا له مؤيدين أو معارضين؛ وذلك ليس بالأمر السهل أو اليسير؛ فذاك يتطلب منه التمتع بالصبر، وكذا بسعة الصدر لتقبل الآراء المطروحة ومناقشتها.

5- الرحمة والاحترام والتواضع: لكي يكون المحاور ناجحاً، ويصل بالحوار إلى حل، وجب به أن يكون رحيماً بمحاوره، خاصة إذا ما كان ذا علم أوسع. وأن يحترم رأي الآخر علينا إرشاد الحوار إلى الرأي الأصوب. التواضع صفة لا بد منها في المتحاور الناجح والحوار الفعال؛ فإذا ما اتضح الخطأ في رأي ما وجب على صاحبه الإقرار دون جدل أو عناد. حوارنا درع نجاة لنا، وأصعب الأمر أن كيف نبدأ الحوار، وذاك يكون بعودة المتحاورين إلى النقاط المشتركة، والتركيز على نقاط التواصل لا الانفصال، ومحاولة كل منهم تضييق خطوط الاختلاف والاستناد إلى الأدلة الصادقة المثبتة بشكل موضوعي. (إنتهى الاقتباس-موقع: موضوع).

فمن أدبيات الحوار وقواعده: تكافؤ أطرافه وانطلاقهم من قواعد وأسس مشتركة للبناء عليها دون إخلال، وإلا تحول لجدل عقيم وتنابز ممجوج ومذموم. ومن البديهيات كذلك أنْ يكون الدعاة للحوار أو التغيير من المعنيين والمختصين بما يدعون له، بل ومن المساهمين فيه والمشتغلين به أكاديميًّا وفكريًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا، حتى تكون الدعوة مطابقة ومتلازمة بدعاة التغيير وخبرتهم العلمية والعملية في الميدان والحقل الذي يدعون لتغييره أو تطويره.

وبانتفاء ذلك، تتحول تلك الدعوات -ومهما كانت واقعيتها وصدقيتها- إلى مجرد أضغاث أحلام سابقة لأوانها، وخارجة عن سياق الزمان والمكان والممكنات معًا، وتتحول من خانة التنوير والإصلاح إلى خانة التشهير بالوطن والتعريض به.

فدعوات تغيير بحجم الأوطان -كما ورد في البيان المذكور- لا يمكن المطالبة بها أو الحديث عنها بمعزل عن فهم عميق لواقع الوطن وتاريخه ومكوناته وممكناته، ونظريات وقواعد وأصول الحكم، وفوق كل هذا وقبله هو حجم التراكم المعرفي والوعي القادران على امتصاص وتقبل هذه الدعوات بوعي ومسؤولية وترجمتها بيسر ونجاح على أرض الواقع دونما إخفاقات أو أعراض جانبية.

لا شك عندي أن الأوضاع المزرية اليوم لكل من العراق وليبيا ليست من احتلالات ومؤامرات كبيرة فحسب، بل من تطلعات مريضة ونزعات مراهقة فكرية ونزوات عاطفية عابرة تسلح بها قوم من أبناء تلك الأقطار في مراحل ما فشكلت وعاءً حاضنًا لكل تلك النكبات والفواجع لاحقًا.

فحراك الشعوب والمجتمعات وأطوار الدولة من الخطورة القفز بها أو عليها أو الإلحاح بالنمو والتطور القهري دون مراعاة ممكناتها ونسيجها الفكري وموروثها الثقافي ومكوناتها العرقية والطائفية؛ فمن خلال تلك القواسم ينسج العقلاء والغيورون المناخات السوية للارتقاء والنشوء الهادي والطبيعي دونما استنساخ أو استيراد، طالما سلَّمنا بأنَّ الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، وأنَّ المسلمات من تطور وعدالة وحياة كريمة هي من نواميس الحياة ومفردات سيرورتها، والتي لا تحتاج إلى دروس أو مواعظ من أحد.

يكفينا في سلطنتنا الحبيبة فضيلة المراجعة لعمر نهضتنا الفتي؛ لنستخلص الكثير من الدروس والعبر، ونضع أصابعنا على مواطن الداء، ونلتمَّس الدواء دون استعراض أو ضجيج، ومن خلال الأقنية الرسمية والشرعية التي طالبنا بها ذات يوم، وأصبحت حقيقة ماثلة أمامنا اليوم كمجلس عُمان والمجالس البلدية. ويكفينا كذلك الاعتراف بصدق بأن الإصلاحات التي قامتْ بها الحكومة عام 2011م، لم تكن جُلها موفقة وبحاجة ماسة للمراجعة اليوم؛ كَوْنها إصلاحات اتسمت بالاستجابة لمطالب فورية. من هنا، فنحن لا نحتاج إلى مزيد من تلك اللحظات الاستثنائية اللا واعية لنكسب الشارع ونرضي الرأي العام ونخسر الوطن، بل نحتاج إلى التسلح بالعقل والوعي لنعزز نهضة عُمان ونتشبه بها؛ فالحكومات الواعية الرشيدة لا تنساق خلف أهواء الشارع في كل وقت وحين، بل تقود الوعي وترتقي به وتنشد العلاجات الذكية ذات القيمة المضافة والأبعاد الزمنية والآفاق الواسعة.

التقليد والمحاكاة من سمات البشر، ولكن العقلاء فقط من يستفيدون من توطين تلك التجارب أو تفجير شبيه لها من أغوار المجتمعات ومكامن إبداعاتهم ومقدرات أوطانهم؛ لهذا فحين نستعرض تاريخ الحركة الوطنية العُمانية منذ الخمسينيات والتى سبقت فجر النهضة المباركة من القرن المنصرم، وأدبياتها ودعواتها ونظرتها للوطن ومستقبله، نحمد الله على ما نحن عليه اليوم، ونحمد الله أكثر على أنها لم تتمكن من النجاح وتقرير مصير عُمان، لسبب بسيط وهو أنها لم تكن تحمل مشروعًا وطنيًّا خالصًا لوجه الوطن، بل تأثرا بالحُمى السائدة في عصرها دون مراعاة إمكانية تحقيق ذلك في السلطنة من عدمه، واليوم ينبرئ لنا شباب مُتحمِّس يعيدنا إلى تلك الأزمنة الغابرة، ولكن بحجج ألحن وهي الحرية والعدالة والحقوق، دون فك كنه تلك المفردات أو وعي بها وبأي صورة ستقام وعلى أي تجربة تقاس.

لدينا أخطاء نعم، ولنا إخفاقات نعم، وهناك ترهل في الأداء نعم، وهناك طموح يفوق الواقع نعم، ولكن هناك ممكنات ثُرشد الطموح والطامحين وترسم واقعًا لا يمكننا أن نتجاوزه أو نتخطاه إلا إذا قررنا خوض المجهول والانتحار الجماعي التدريجي.

كل ما نحتاجه اليوم هو المزيد من الانفتاح على البعض ليفهم أطياف الدولة بعضهم ويتقربوا لبعضهم أكثر، فنحن بحاجة إلى بعث ثقافة السبلة مجددًا لتشرع أبوابها وتجمع السائل بالمسؤول بيسر، ويلتقي الوزير بالمثقف والمتخصص والمعني بلا حواجز أو تكلف يستمع منه ويسمعه، لتذوب الدولة ونتمكن من ثقافتها ونصهر عناصرها في وجدان الكل، فيتشرب الجميع المسؤولية ويتقربون من الممكنات أكثر فأكثر. نحن بحاجة ماسة اليوم إلى تأسيس ثقافة تقارب أكثر بين الحكومة وأطياف الدولة تفك طلاسم القرارات وتشرح المعوقات والمحاذير، وتتلمس البدائل والممكنات وتتقرب من الكفاءات، وبهذا تمتزج الدولة في نسيج واحد لا طبقية فيه ولا تحزبات ولا غموض.

كلُّ هذا أصبح اليوم من الحتميات والضرورات القصوى كي لا تستمر الحكومة الرشيدة في سياسة الأبواب الموصدة، وتبقى في هيئة الصندوق المغلق بإحكام؛ وبالتالي تنطلق الأجيال الوطنية في بناء الوطن ورسم مستقبله في أخيلتها ومن أول السطر بلا زاد تجربة ولا ماض ولا ذاكرة.

---------------------

قبل اللقاء: عُمان لا يمكن أن تُبنى بإثمار إلا من خلال كيانها الجغرافي والبشري ومكوناتها التاريخية والإجتماعية، وطالما تشعر عُمان والعُمانيون بشيء من التفرد والاختلاف في محيطهما الخليجي والعربي؛ فمن العبث أن تتطوَّر عُمان والعُمانيون بالنظريات المستوردة شرقية كانت أو غربية. ففي عُمان الأمس الكثير من التجارب والمواعظ والعبر التي توجب التأمل والتدبر، وفي عُمان اليوم الكثير من المكاسب التي توجب الشكر والصون وتأجيل أحلامنا وطموحاتنا؛ فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.. وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com         

تعليق عبر الفيس بوك