قراءة في فيلم "النافذة الخلفيَّة"

أمل السعيديَّة

فيلم "النافذة الخلفية" من إخراج السير ألفريد هيتشكوك. أُنتج عام 1954، ويُعدُّ من أفلام الغرفة الواحدة؛ أي تلك الافلام التي تصور في مكان واحد. هذا هو الفيلم الأول الذي شاهدته لهذا المخرج. وعلى الرغم من أنَّني لا أفضل هذا الأسلوب في المعالجة الفنية لقصة الفيلم، إلا أنَّني وجدت نفسي منجذبة تماماً لإكمال مشاهدته، الذي وإن بدا فيلم إثارة وتشويق، إلا أنَّه عن الحب والقدرة على التغيير من أجل الحبيب.

نجيب محفوظ في إحدى رواياته يقول: "وحول رأسه إلى النافذة؛ فخيل إليه أن سكان ذلك النجم اللامع سعداء لبعدهم عن هذا البيت"، إنَّ هذه المقولة لا تنطبق على المصور جيف الذي يلعب دوره الممثل جيمس ستيوارت؛ حيث إنَّ المصور جيف كسرت قدمه، مما دفعه لقضاء سبعة أسابيع في شقته، غير قادر على الحراك. تزوره الممرضة وصديقته ليزا الفاتنة.

في هذه الفترة يقضي جيف وقته بمراقبة الجيران من نافذة شقته التي تطل على عمارة مزدحمة بالشخصيات والقصص الإنسانية المختلفة، وتتكشف لجيف أسرار البيوت الصغيرة وهموم سكانها؛ فهنالك المرأة التي تنتظر أن تحب، والسيدة العجوز التي تعتني بكلبها كما لو أنه صديق حقيقي، وراقصة الباليه الفاتنة التي تضطر لمواعدة الرجال الذين لا تحبهم.

الممرضة التي تزور جيف تتحدَّث معه عن أمور مختلفة، وتعاتبه على قضاء وقته في مراقبة الجيران، كما تظهر الممرضة منزعجة من عدم موافقة جيف من الزواج من ليزا على الرغم من أنها تحبه جدًّا وهو يتحجَّج بأنها تهتم بأمور لا تهمه كالموضة والشهرة. في أحد المشاهد يقولان:

"ربما سأتزوج في يوم من الأيام. ولكن إذا فعلت ذلك، فسأتزوج من امرأة... لا تنظر للحياة على أنها مجرد، مجرد ثوب جديد، وعشاء فخم! وتبحث عن آخر الفضائح... أريد امرأة مستعدة للذهاب إلى أي مكان ولفعل أي شيء، وتحب هذا النوع من الحياة. لذا فأفضل شيء بالنسبة لي أن أنسى هذا الأمر برمته في الوقت الحاضر وأدعها تجد شخصـًا آخر".

- "نعم، أستطيع سماعك الآن وأنت تقول لها "اخرجي من حياتي، أنت امرأة جميلة جدًا، وأنا لا أستحقك. سيد (جيفريز)، أنا لست امرأة متعلمة ولكني أستطيع أن أخبرك بشىء واحد، عندما يتقابل رجل وامرأة ويعجب كل منهما بالآخر فيجب عليهما أن يتحولا إلى شىء واحد كتصادم سيارتي أجرة في (برودوى) بدلاً من جلوسهما كي يحلل كلٌّ منهما شخصية الآخر! كما لو كانا يقومان بدراسة معملية".

من هنا.. نصل لمعرفة موضوع الفيلم، أنَّ ليزا عارضة الأزياء الشهيرة تحب جيف المصور المشرد الذي يحب تنفيذ المهمات حتى في البلدان التي تعاني ظروفا صعبة على الصعيد الأمني. وفي حوار مع ليزا التي حاولت اقناعه بالزواج منها تقول له: "هل تعتقد أن واحداً منا يمكن أن يتغير؟"؛ حيث إنَّ جيف يرفض الزواج منها بسبب أنها مختلفة عنه. يجيب جيف: "لا لا أعتقد أنَّ هذا يمكن أن يحدث". ثم نشاهد تحولاً كبيراً باسم هذا الحب، يؤكد لنا كيف أنَّ الحب الحقيقي قادر على أنَّ يصمد أمام اختلاف الشخصيات. بل إنَّ كثيرين يحاولون إضاءة مناطق جديدة في أنفسهم، يمدون منها مرساة النجاة في قلب الآخر ولولا الحب ما كانوا قد اكتشفوها قط. هيتشكوك يقدم لنا هذا الموضوع في معالجة مثيرة لقصة الفيلم، ولا ينسى أن يجعل للموسيقى مكانها المؤثر الذي قد يمنح امرأة على وشك الانتحار فرصة جديدة للاستمرار على ظهر هذا الكوكب المليء بالقصص المربكة. إنَّ هذا الفيلم الذي يعد من أفلام الغرفة الواحدة لا يقدم لك هذه القصة فقط بل يلقي الضوء على دلالات كثيرة منها رمزية النافذة، ومطالعة الآخر من بعيد، ومحاولة الاقتراب منه. كما يشعرك كيف أن الحياة لها أوجها عديدة في حيوات الناس، لكنها في الحقيقة تنطلق من آلام ورغبات مشتركة.

... إنَّ ذروة الفيلم تتمثل في اللحظة التي يكتشف فيها المصور جيف حادثة قتل في البناية المقابلة لشقته، ويبدأ بتتبع قصة الجريمة ومحاولة اكتشاف المجرم مع ممرضته وصديقته ليزا. أشعر بالحماسة لمشاهدة أفلام هيتشكوك الأخرى تلك التي في غرفة واحدة أيضاً وأحدها "الحبل"، سأفعل ذلك قريباً بلا شك فمن يغرف من نبع السينما لا يرتوي أبداً.

أخيراً.. تقول الكاتبة السعودية فاطمة عبدالمحسن في كتابها "أقصر طريق لحل المتاهة" عن النافذة: "النافذة مخلوقة من ضلع البيت.. النافذة المشرعة فم الجدار، هي موضوعه غير المحسوم مع العالم". كثيراً ما تكون الحقيقة غير ظاهرة لكنها تحتاج لثقب لكي تنفذ إلى الخارج. النافذة ذلك الجرح المفتوح في كل بيت، الذي يدخل النهار كل يوم أملاً في مداواة آلمنا، لكنها للأسف لا تفلح في كل مرة.

تعليق عبر الفيس بوك