الأحاديَّة الفقهيَّة وخطرها على تطوُّر العالم العربي والإسلامي

د. يحيى أبو زكريا

عندما يتحدَّث الباحثون عن المدرسة السلفية ومنهج السلف الصالح يقعون عادة في شبهة أكاديمية وعلمية تكمُن في إطلاق مصطلح السلفية لتشمل الغث والسمين، أو لتجمع بين السلف الصالح كمرحلة تاريخية متقدمة، وبين محمد بن عبدالوهاب كرائد للسلفية المعاصرة.

والسلفية أصبحت مدارس واتجاهات، فهل يوافق السلف الصالح الذين كانوا مثالا للعلم والتقوى والورع والاحتياط في الدماء على ما يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وجبهة النصرة...وغيرها من فصائل الذبح والتكفير، وهل يوافق أرباب السلفية الراهنة والذين يعتمدون نهج محمد بن عبدالوهاب على ما تقوم به داعش التي تدعي أن مشربها المعرفي ومرجعيتها الفكرية السلف الصالح الذين يجب أن يسود خطهم وفكرهم وإسلامهم وطرائق لباسهم وتفكيرهم ونهجهم؛ فالدكتور الشريف حاتم بن عارف العوني عضو مجلس الشورى في السعودية والأستاذ في جامعة أم القرى، والذي كانت أطروحته للدكتوراه بعنوان: "أحاديث الشيوخ الثقات: لأبي بكر الأنصاري"، يقول: يجب ترك الكسل لمجابهة وفضح التطرف؛ قبل أن تنفجر بنا وتقطعنا شعباً ووطنا إلى أشلاء يصعب أو يستحيل جمعها ثانية. وهذه القنبلة الموقوتة التي تهددنا كما ذكر فضيلة الشيخ الشريف بالانفجار في أي لحظة من الآن إن لم نتداركها وننزع فتيلها؛ تكمن كما قال بين ثنايا بعض الفتاوى الواردة في كتاب "الدرر السنية" الذي يحتوي على جمع من فتاوى علمائنا القدامى والحديثين.

كتاب الدرر السنية هو مؤلف يقع في حوالي 16 مجلدا، جمعه ورتبه عبدالرحمن بن محمد بن قاسم النجدي (1312- 1392) وللنجدي كذلك مؤلف يقع في 37 مجلدا، كل مجلد يحتوي على حوالي 1200 صفحة، جمع فيه تراث الشيخ ابن تيمية، الفقهية منها والعقدية. والشيخ النجدي ألف عدة كتب؛ منها: "السيف المسلول لعباد الرسول"، وغيره من كتب.

ويرى الشيخ أنه قبل الحديث عن "داعش"، لابد من تطهير الموروث السلفي الذي أنتج داعش ونظراءها.. أما المفتي العام في المملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ -في بيان له- فيرى أنَّ "داعش" و"القاعدة" لا يحسبان على الإسلام وهذه الجماعات الخارجية لا تُحسب على الإسلام، ولا على أهله المتمسكين بهديه، بل هي امتدادٌ للخوارج الذين هم أول فرقة مرقت من الدين بسبب تكفيرها المسلمين بالذنوب فاستحلت دماءهم وأموالهم.. قال صاحب النهاية ابن الأثير: "الفقه في الأصل: الفهم، ويقال: فقِه الرجل بالكسر- يفقِه فقهاً إذا فهم وعلم، وفقُه بالضم يفقُه: إذا صار فقيهاً عالماً".

وفي لسان العرب لابن منظور: "الفقه العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم". فالفقه يعني الفهم والعلم وفي عرف المتشرعين: الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال... وقد عرف العصر النبوى من البعثة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه عصر التشريع وكان الحكم الشرعي يتنزل من خلال الوحي ويقوم الرسول الأعظم بتبليغه قرآنا أو سنة قولية أو تقريرية أو فعلية. وبعد وفاة رسول الله كانت الحاجة بالغة لمعرفة الأحكام الشرعية في موضوع المستجدات والطوارئ فنشأ عصر الفقه والاجتهاد وأصبح لكل مدرسة اجتهادية مبناها وطريقتها وأسلوبها في استنباط الحكم الشرعي.. وقد بدأت الرؤى الفقهية والتعددية الفقهية تتجلى بوضوح في عصري الصحابة والتابعين وبرزت أثناءها مدرستان فظهر في هذه الأثناء اتجاهان قويان للاجتهاد والفقه، تمثلا في مدرسة الحديث في الحجاز، ومدرسة الرأي في العراق، طبعا وضع الفقهاء طرائق في الوصول إلى الحكم الشرعي أهمها الاستنباط من مصادر التشريع الإسلامي، وفي هذا السياق قال أحمد بن حنبل: "لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا"، وقال: "رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كُلُّه رأيٌ، وهو عندي سواء، وإنما الحجةُ في الآثار". وبين مدرسة الرأي والحديث، كانت هناك مدرسة أهل البيت التي لها مباني استنباطية دقيقة، وقد كان رائد هذه المدرسة الإمام جعفر الصادق الذي تتلمذ على يديه كما يقول البخاري في كتابه تاريخ الإسلام حدث عنه أبو حنيفة النعمان، ويذهب صاحب كتاب الجواهر المضيئة في ترجمة الإمام جعفر الصادق إلى أن فقهاء كثر تلمذوا على يديه منهم : يحيى بن سعيد، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوري، وابن عيينة، وكذا أبو حنيفة كما ذكر ذلك صاحب المشكاة أيضا.

وقد كانت ظاهرة الآراء الفقهية المتعددة والرؤى الشرعية المختلفة تعبِّر عن طبيعة الشريعة الثرية والغنية بنصوصها وأحكامها، ولم يكن الاختلاف الفقهي طريقا إلى القتال والخلاف والذبح، وقد بدأ التخندق المذهبي في وقت لاحق عندما سخّر الغلاة كثيراً من القضايا العقدية في خدمة أهوائهم، كما سخّروا التأويل والباطن ولووا أعناق النصوص.

لقد نجح كعب الأحبار -الذي قدم المدينة المنورة من القدس بعد فتحها في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ودمر الإسلام من الداخل، والذي كان ابن عباس يكذبه ويجهر بتحريفه للدين- أن يُقنع عالما كابن القيم الجوزية الذي قال فيه: "وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به -أي بالنبي الكريم- وصَرَّح بها بين أظهر المسلمين واليهود والنصارى، وأذن بها على رؤوس الملأ، وصدَّقه مسلمو أهل الكتاب عليها، وأقروه على ما أخبر به، وأنه كان أوسعَهم علماً بما في كتب الأنبياء، وقد كان الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- يمتحنون ما ينقله ويزنون بما يعرفون صحته فيعلمون صِدقه".

فكيف لا يضحك البغدادي وأحفاد كعب الأحبار على المسلمين جميعا.. حسبنا الله في أمة أعدمت العقل والتفكير واعتنقت التكفير؟

تعليق عبر الفيس بوك