أوثان من تمر

أحمد الرحبي

مِنْ طريف مُمارسات عرب الجاهلية أنَّهم كانوا يصنعون بَعْض أوثانهم من تمر، والتي كانوا يتعبدون إليها -حسب اعتقادهم- لتقرِّبهم إلى الله زلفى، وهو المادة الغذائية الأكثر وفرة في جزيرة العرب؛ فإذا ما جاعوا وأخذ بهم السغب كل مأخذ أكلوها "هنيئاً مريئا"؛ فتبًّا لكل مقدَّس تعنيه وقيمة روحية ترمز إليه هذه الأوثان (التمرية)، طالما أنَّ الحاجة الماسة إليها كمادة غذائية تسكن غائلة الجوع، في تلك اللحظة أهم من كل رمزية وقيمة، قدسية لا تغني ولا تسمن من جوع تشكلها في اعتقادهم.

كذلك، فإنَّ المبادئ والقيم في عُرف بعض أصحابها ليست إلا حلية و"إكسسوار أخلاقي" زائفاً، يتمظهرون به حرصاً منهم لكي تظهر صورتهم الاجتماعية -كما يجب- متطابقة في معاييرها مع المبادئ والقيم التي أرساها المجتمع وتوافق عليها؛ فيحرصون في إخراج شكلي متقن ألا يشذون عن روح هذه المبادئ والقيم؛ وذلك بإلباس وجوههم قِناعاً يعكس في قسماته وملامحه كلَّ الإخلاص والصدق في التعبير عن هذه القيم والمبادئ في سلوكهم، وتمثل الروح الحقيقية لها في تعاملهم مع الآخرين. ويأتي ذلك كله في أداء شكلي (برَّاني) أهم ما يعبر عنه زيف المظهر عند صاحبه، والتناقض الحاد في السلوك عند التعامل المباشر مع الآخر.

فلَدَى الاحتكاك مع التجربة الحياتية الحقيقية، فإنَّ هؤلاء الذين يرفعون عقيرتهم بشعارات المبادئ والقيم، هم أول المرتدِّين عن دينها -المبادئ والقيم- وأول الناكصين عن نهجها، وهم أول الخوالف في حربها وأول المتقهقرين أمام عدوها، وهم أول الشاهدين زوراً في حقها، وأول الواشين بها (قبل أن يصيح ديك الفجر ثلاث مرات)، وهم أول المسلمين لها في أيدي طالبيها، وفي الأخير هم أول المدعوين لحق تمثيلها والإنابة عنها، وهم أول المطالبين بحق تركتها وميراثها، وهم أول المتنازعين حول من يفوز بأشيائها ولوازمها الشخصية، هذه المبادئ والقيم المسكينة.

فعند التعامل المباشر تكاد لا تلمس فاعلية تذكر للمبادئ والقيم لدى الذين يتغنون ليل نهار بها، والذين يعتبرون أنفسهم المدافعين عن المبادئ والقيم، المنافحين عنها بل على العكس من ذلك تجدهم وقد استحالوا ألد الأعداء لها، فيقودون حرباً شعواء عليها من منطلق مبادئهم وقيمهم الطارئة، التي تضمن لهم المحافظة على أكبر قدر من الامتيازات وقدرة التأثير وتتيح لهم شيئا من فاعلية وقوة النفوذ في المجتمع؛ حيث إنَّ المبادئ والقيم الحقة لا تمكنهم ولا تضمن لهم الضمانة الأكيدة في الفوز، بتلك الامتيازات المرجوة ولا قوة النفوذ التي ينشدونها، فمع كل مرة يلجأون فيها إلى تغليب مبدأ الأنا، بقياس مسألة ذات طابع عام، مثلاً من خلال أحكام انطباعية وعبر حسابات شخصية انتهازية، تتغلب القدرة لديهم وتترسخ في التملص من كل ما هو ثابت وراسخ من القيم والمبادئ، والتمسك بكل ما هو طارئ إلى حين، منها.

*******

لا شكَّ أنَّ حضارة عصرنا تعتبر الابنة الشرعية للعلم والعقل، ومنتجا أصيلا له بعد أوج فترة تبرعمه وتفتحه، قبل أربعة قرون من الزمان أو أكثر، ما عرف في ذلك الوقت بعصر النهضة، لكن يبدو أن العقل خلال هذا الأوج من التبرعم والتفتح لملكاته التي أنتجت انفجارا عظيما للطاقات والإمكانيات والاستعدادات البشرية الكامنة طوال قرون في عمق هذا الكائن الفريد الذي استطاع أن يحوز على المرتبة الأولى في الانتخاب الطبيعي، ويحقق درجة متفوقة قصوى في سلم التطور، بعد أن استقام منتصب القامة ليخلف جميع الحيوانات والكائنات وراء ظهره، وليتحكم بها ويستفيد منها بقوة ملكة العقل والتفكير لدية، وهي النبتة الكونية التي تبرعمت وتفتحت فوق جذعه، والنار المقدسة التي لا تزال تشتعل في تجويف جمجمته، نقول يبدو أن العقل البشري في أوج هذا التبرعم والتفتح الرهيب لملكاته أنتج نقيضه المدمر أو قابيله (من قابيل) إذا جازت العبارة، ويتمثل هذا النقيض المدمر للعلم، في السياسة وتحكمها بمفاصل الحياة في العالم وتدخلها فيها؛ فمنذ قرنين ونيف قادت السياسة العالم الى التورط في حربين مدمرتين، وهي لا تزال تؤجج الوضع في العالم بالأزمات الخطيرة، التي تعرض بالدرجة الأولى من خلال مظاهر العسكرة والاحتراب وأجواء القتل والتدمير والإرهاب والحقد الناتجة في مجملها عن هذه الأزمات، الإنسانَ للسحق وتعرض الانسانية كرابط بين البشر للتمزيق.

*******

وبالنظر إلى ما نشهده حاليا في عالمنا من عسكرة للسياسة وأرهبة للمعتقد والدين، وما ينتج عن ذلك من صدام، وما يخلف بعد ذلك من أفعال وردود أفعال صادمة وفظاعات، نتساءل: هل ثمة مساحة أو منطقة كامنة من الجنون في العقل البشري تغذي كل هذه الممارسات والأفعال الشريرة؟

*******

الجنة هي مفهوم خير، ودائما ما تعتبر في الوعي البشرى مستقرا جميلا وحالما ما يشبه العودة إلى الرحم أو خارطة طريق واضحة المعالم في نهاية سعيدة لرحلة العودة بعد الموت، فكيف يتم تشويه هذا المفهوم الإنساني الجميل والحالم للجنة وتبشيعه إلى درجة التوهم أو الاعتقاد الجازم بأنَّ الذهاب إلى الجنة مضرجا بالدماء وعلى جثث وأشلاء الآخرين، هو الطريقة المضمونة لدخولها؟

*******

الاقتصاد قرين الأزمة دائما، والأزمة الاقتصادية أو الحال الناتجة عنها هي أقرب تشبيها بحالة ذلك الشخص الذي تنقطع حذاؤه في منتصف الطريق، دون إمكانية تكملة مشواره إلا بصعوبة بالغة.

تعليق عبر الفيس بوك